مراجعة مصر
عبد الرحمن طارق

مسلسلات رمضان في مصر

كان شهراً برعاية المخابرات

20 نيسان 2023

شاشة صغيرة في كل بيت

الفن، «قوة ناعمة» تعبّر به الدول عن ثقافتها وإرثها أمام العالم من أجل التأثير عليه، وهو وسيلة الدولة لإيصال صورة إيجابية تكسبها احترام شعوب الأرض. والمسلسلات، أو الدراما، ليست فقط تمثيلاً، بل يُفترض أن تحمل قضايا الشعوب وأن تعالج تطلّعات الأجيال واحتياجاتها ومشاكلها— هذا إن كانت الدولة تسير على «الطريق الصحيح».

أمّا الدول الرجعية، فتستغلّه لبناء النفوذ والقوة وقدرة التأثير والإقناع من دون إكراه. الإقناع بالمسار الذي يخدم كيان الفاسدين، وتثبيت الحكم وتزوير إرادة الناس عبر محو العقول أو السيطرة عليها، من خلال شاشةٍ صغيرة تخترق كل المنازل.

مُخطئ من يعتقد أنّ النظام المصري مجرّد نظام سلطوي تتركز فيه السلطة بيد الرئيس فقط. هو أبعد من ذلك بكثير، هو نظام شمولي يسعى إلى السيطرة الفعلية على كل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والسيطرة حتّى على عقول المصريين، ولا يوجد سلاح أقوى من الدراما لتنفيذ هذه المساعي.

بداية الحدّوته

كان هدف الرئيس عبد الفتّاح السيسي فى بداية حكمه عام 2014 تجميل صورته أمام قادة العالم، وإقناع الجميع أن الإطاحة بالرئيس المعزول محمد مرسي كان نتاج ثورة شعبية لا انقلاب عسكري. لم يكن يريد أن يُظهر طبيعته الوحشية، بل كان يحرص على عدم الاصطدام مع الإعلام وأخفى نيّته في سيطرة نظامه الشمولي على هذا القطاع، وحث وسائل الإعلام المرئي والمكتوب على دعمه ودعم خططه، وقد توجّه إلى الإعلاميين عبر نصٍّ مفاده أن «مهم أوي تساعدونا في معركتنا لتوحيد مصر إحنا في معركة كبيرة جداً».

تجدر الإشارة إلى دور مجموعة «إعلام المصريين» التي تديرها المخابرات المصرية في الباطن ويرأسها في الواجهة رجل الأعمال أحمد أبوهشيمة، والتي سهّلت استحواذ السيسي على قنوات «أون» وستّ صحف وعدّة مواقع الكترونية أهمّها «اليوم السابع»، وشركتَين لإنتاج الأفلام والدراما، وسبع وكالات تسويق وإعلان، ليُضاف إلى ذلك لاحقاً مجموعة قنوات «سي بي سي»، وصحيفة الوطن لرجل الأعمال محمد الأمين.

وبعد عام، عاود السيسي الكرّة، هذه المرّة على صعيد الأفراد، ووجّه خطابه لإثنين من أكبر فنانّي مصر وهما أحمد السقا ويسرا، خلال احتفال عيد الشرطة التي أُقيمت بأكاديمية الشرطة، قائلاً: «يا أستاذ أحمد يا أستاذة يسرا والله هاتتحاسبوا على دَه، أيوه هيتحاسبوا، عايزين ندّي للناس أمل في بكرة ونحسن في قيمنا وأخلاقنا، وهذا لن يحدث، إلا من خلالكو، فكل قطاع من قطاعات الدولة له دور، للفن دور مهم في نشر الوعي بين المواطنين».

الشركة المتّحدة للخدمات الإعلامية

في عام 2016، وبعد تثبيت السيسي لحكمه وسيطرته على كامل مفاصل الدولة، تخلّى عن هدوئه واحتدّت نبرته في وجه وسائل الإعلام، وأنشأت أجهزته المخابراتية الشركة المتّحدة للخدمات الإعلامية، نتيجة دمج «إعلام المصريين» و«دي ميديا». وأصبحت هذه الشركة واجهةً لنظام الحكم، إذ اشترت في بداية الأمر ستّ صحف وعدد من المواقع الإخبارية الالكترونية وأربع شبكات تلفزيونية تُدير بدورها 14 قناة ومنها «أون» و«الحياة» و«دي إم سي» و«سي بي سي» و«الناس» و«مصر قرآن كريم» و«المحور» و«أون تايم سبورتس» و«تايم سبورتس» و«القناة الأولى»… وخمس محطّات إذاعية، هي «نغم إف إم» و«ميجا إف إم» و«أون سبورت إف إم» و«راديو 9090» و«شعبي إف إم»؛  وعدد من المسارح ودور السينما، ليستطيع السيسي من خلالها التحكّم بالسوق الدرامي، كونه أصبح الوحيد الذي يمتلك منافذ عرض الأعمال. والأهم، أصبح أيضاً المتحكّم بتحديد قيمة شراء تلك الأعمال، لا سيّما أنّه أنشأ شركة «بريزنتيشن سبورتس» للسيطرة على مجال الدعاية والإعلان، مع «المتحدة»، وأحكم بذلك قبضته على كل جوانب السوق الدرامي، بما في ذلك أبسط الأمور مثل أجور الفنانين.

بعد العام 2017، توحّش السيسي أكثر فأكثر، حيث قرّر إحكام القبضة بشكلٍ أكبر وأكثر قانونيةً، مع إنشائه المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام للإشراف على كل المنافذ الإخبارية والترفيهية، وشكّل عبره لجنةً للدراما تكون مهمّتها الرسمية مراقبة جميع المسلسلات المعروضة على التلفزيون. وبالطبع، لن تُبدي هذه اللجنة أي ملاحظة على أى عمل تابع لـ«المتحدة»، بينما لاقى صنّاع الدراما من بين الشركات الخاصة المُنافِسة متاعب كثيرة. حتّى أنّ الشرطة المصرية كانت (ومع إنشاء «المتحدة») تداهم مواقع تصوير عدد من شركات الإنتاج المُنافسة، ليعلم الجميع أنّ الغلَبة الآن أصبحت في يد شركة المخابرات. وعليه، قلَّت نسبة إنتاج الدراما، فبعد أن كان يتمّ إنتاج أكثر من 40 مسلسلاً درامياً كل عام في موسم دراما رمضان، أصبح عدد المسلسلات لا يتخطّى الـ20، وأصبحت كل الشركات الإنتاجية العريقة في مصر تواجه صعوبات، وقلّلت عدد إنتاجاتها، وأصبحت مجبرة على التعاون مع الشركات التابعة لمجموعة «المتحدة»، وهي «سينرجي» و«ميديا هب».

الإخضاع

إطلاق العنان لخيال الكتّاب والمؤلّفين والمخرجين والفنّانين والمنتجين هو الأساس في عالم الدراما، وأحياناً، لا يأتي الإبداع إلّا بتوفير مناخٍ من التنافسية. أمّا الآن، عام 2023، فقد هيمنت «المتحدة» على قطاع الإعلام، واحتكرت الإنتاج الدرامي والتلفزيوني بعد سحب البساط من تحت أقدام صنّاع المسلسلات ووضع عراقيل وصعوبات تصل إلى حد التهديد في وجه كل شركات الإنتاج: إمّا أن يتمّ وضع اسم «المتّحدة» كشريكٍ بالإنتاج، أو لن يُنتَج العمل الدرامي؛ وإن تمّ التصوير، فلن يتم بيع العمل بسبب هيمنة الشركة «المتحدة» كشارٍ للأعمال.

أصبحت فكرة تحقيق أي ربح لدى الشركات الخاصة من دون الامتثال لكافة أوامر «المتّحدة» شبه مستحيلة: مثلاً، لا يوجد في أي عمل شخصية ضابط فاسد، ولا يمكن عرض نموذج سياسي مُعارض يسعى لمصلحة الوطن، أو شيخاً ليس إرهابياً، وبعدما كان يتمّ إنتاج أعمال تتناول القضايا الاجتماعية والعلاقات الأُسَرية والألغاز وعالم الجريمة، أصبحت معظم الأعمال موجّهة، توصّل رسائل فقط عن أنّ الضابط هو البطل القومي صاحب الحديث الصادق دائماً، وهو من الأبطال الذين يُحاربون «قوى الشر»، وهذا المصطلح الذي يستخدمه السيسي ونظامه لوصف المعارضين، وأصبح اسم «المتحدة» موجود بالقوة.

الرسائل السامّة في دراما المخابرات

قبل إنشاء الشركة المتّحدة، كان يقتصر تداخل الأجهزة المخابراتية بالدراما التليفزيونية على عبارة واحدة هي أنّ «المسلسل مأخوذ من ملفات المخابرات المصرية»، وكانت هذه العبارة توازي في أذهان المتابعين الوطنية والاحترافية، أي أنّ العمل مستوحى من بطولاتٍ للمخابرات، عابرة للحدود، دفاعاً عن الأمن القومي المصري. وقد تجسّد ذلك في أعمالٍ درامية مثل: رأفت هجان، والسقوط في بئر سبع، والصفعة، والعميل 1001، وحرب الجواسيس، ودموع في عيون وقحة، وعابد كرمان.

لكن الآن وبعد سيطرة شركة مخابراتية على صناعة الدراما، تخطّى الأمر عبارة «المسلسل مأخوذ من ملفات المخابرات المصرية» وأصبحت كل المسلسلات تخدم أهداف ومصالح النظام فقط. ومنها مثلاً مسلسلَي «الكتيبة 101» و«حرب»، وهما يؤكّدان الصورة التي حاول النظام تقديمها في العامَين الأخيرَين آخر عامَين بمسلسل «الاختيار» و«هجمة مرتدة».

تتلخّص هذه الصورة باحتكار الوطنية للضباط، وتقديمهم على أنّهم وحدهم القادرون على النهوض بالبلاد، وهم الأبطال الحقيقيّون، وكل من دونهم إرهابيون وضعفاء وغير قادرين على إدارة أمور البلاد. أمّا باقي الأعمال، أكانت رومانسية أو كوميدية أو أكشن، فهي تعمّم رسائل تعمل على تكوين صور ذهنية معينة للشباب؛ على سبيل المثال، خلال حلقات المسلسل الأشهر والأكثر مشاهدةً في الموسم الرمضاني، «جعفر العمدة»، أُضيفَ مشهد ليس له علاقة بأحداث العمل لا من قريب ولا من بعيد، ظهر من خلاله الممثل الشاب أحمد داش موبّخاً أحد أصدقائه بسبب طلب الأخير منه أن ينضم إليه في عمله على السوشيال ميديا مع منظّمات أجنبية، ومفاد التوبيخ أنّ هذا العمل يشوّه صورة حقوق الإنسان فى مصر! وبذلك يروّج المشهد فكرة أنّ شباب السوشيال ميديا هم عبارة عن مجموعة خائنة موّلة من الخارج. أيضاً في مسلسل «حضرة العمدة» للفنانة روبي، يُقدَّم الشيوخ والمتديّنين على أنّهم إرهابيّون ومتشدّدون، من خلال شخصية الممثّل محمد محمود عبد العزيز، وهي شخصية معلّم متديّن بلحيةٍ طويلة، وبطبيعة الحال شديد التطرّف.

وعند التدقيق أكثر فأكثر، سنجد مثل تلك الرسائل في كل الأعمال الدرامية، وغير الدرامية. رسائل توجّهها الأجهزة المخابراتية من خلال مسلسلات «المتحدة».

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
الاتحاد الأوروبي: قرار المحكمة الجنائية مُلزِم لكلّ دول الاتحاد
مقتل باحث إسرائيلي كان يبحث عن «أرض إسرائيل» في جنوب لبنان
قتيل بصواريخ حزب الله على نهاريا 
 أعنف هجوم إسرائيلي على الأراضي السورية أكثر من 68 قتيلاً في غارات تدمُر