كلّ ما جرى، خلال الأيام الماضية، يوحي بأن ما يفصلنا عن الارتطام السريع بات يُقاس بالأيام والأسابيع، وبأننا سندفع خلال فترة قصيرة جداً كلفة أشهر من المناورات والتراكمات التي ضاعفت كلفة هذا الارتطام.
رفع الدعم بلا بديل
احتياطات المصرف المركزي لم تعد تبشّر بإمكانيّة توفير التمويل المطلوب لدعم استيراد السلع الأساسيّة لأكثر من بضعة أسابيع. ما تبقى من هذه الاحتياطات قارب ملامسة الحد الأدنى الذي لا يمكن المساس به وفقاً للمعيار الذي وضعه حاكم مصرف لبنان، والذي يمثّل احتياطات المصارف الإلزاميّة المودعة لديه.
حتّى اللحظة، لا تملك الدولة اللبنانيّة خطة لوضع آليات دعم بديلة، وما زال مشروع البطاقة التمويليّة يفتقر إلى مصادر التمويل المطلوبة بالعملة الصعبة. وإذا قررت الدولة تمويل البطاقة بطبع العملة، فالنتيجة لن تكون سوى موجة جديدة من موجات التضخّم المفرط الذي يدفع كلفته أصحاب الدخل المحدود والفئات الأكثر الهشاشة.
المشهد المتوقّع هو كالتالي:
- ارتفاع قياسي في أسعار السلع التي كانت مدعومة في السابق، وارتفاع جديد في سعر الصرف بعد انتقال الطلب على الدولار لاستيراد هذه السلع إلى السوق الموازية.
- بغياب أي خطة لتأمين آليات دعم بديلة لا ترمي بثقل الأزمة على سعر صرف الليرة، يلوح انفجار اجتماعي كبير في الأفق.
ثمن المكائد السابقة
يحاجج البعض اليوم أن الدخول في مرحلة توحيد أسعار الصرف وتعويم سعر الليرة، والخروج من حقبة الدعم وما تنطوي عليه من فوضى في سوق القطع داخل النظام المالي، مسألة لا بد منها.
في الواقع، من الأكيد أن أي اقتصاد طبيعي لا يمكن أن يشهد استقراراً مستداماً في ظلّ حالة من تعدّد وفوضى أسعار الصرف الاعتباطيّة، كالتي يشهدها لبنان. لكنّ الدخول في مرحلة توحيد أسعار الصرف وتنظيم سوق القطع ليس مسألة عبثيّة. فهو يبدأ من تنظيف الميزانيات المصرفيّة من الخسائر ليستعيد النظام المالي انتظامه وقدرته على اجتذاب العملة الصعبة. ويمر بإعادة هيكلة الدين العام لإعادته إلى مستويات قابلة للاستيعاب. وينتهي بخروج متدرّج من حالة الكابيتال كونترول، بعد أن تكون الدولة قد أقرّت قانوناً لهذه الغاية لمنع تهريب السيولة.
اليوم، يسير لبنان نحو توحيد أسعار الصرف، لمجرّد فقدان القدرة على دعم سعر الصرف الرسمي القديم، أو سعر صرف المنصّة بالنسبة لسلّة المواد الغذائيّة. لكنّ الدخول في هذه المرحلة لا يتوازى مع أي خطة للخروج من مرحلة الأزمة، أو لإعادة سوق القطع إلى حالة من التوازن المضبوطة بتدفقات نقديّة خارجيّة وازنة، أو على الأقل بمساعدات خارجيّة معتبرة.
المشهد المتوقّع هو كالتالي:
- المزيد من التفلّت في سعر الصرف المتخبّط، لا العائم، نتيجة استمرار الأزمة نفسها.
وبذلك، يصبح من الأكيد أن الارتطام السريع لن يكون ثمناً لفقدان آليات الدعم البديلة فحسب، بل سيكون أيضاً ثمناً لجميع المناورات والمكائد التي أطاحت بأي فرصة من فرص التصحيح المالي خلال السنة ونصف السنة الفائتة، لحماية المصالح المتجذرة في النظامين المصرفي والسياسي.
الحكومة المفقودة
في كل هذا المشهد، يستمر غياب العنصر الأهم في المعادلة: سلطة تنفيذيّة مكتملة الصلاحيات قادرة على التعامل مع تداعيات الأزمة. ما زالت العراضات الإعلاميّة المتبادلة توحي بأنّ العقدة تكمن في احترام الصلاحيات الميثاقيّة والمواقع الدستوريّة، وفي الصراع على الحصص والمراكز الوزاريّة. كما تذهب بعض التحليلات أبعد من ذلك، لتربط العقد الحكوميّة بتوازنات إقليميّة وتسويات دوليّة لم تنضج بعد.
لكنّ الأكيد أن هذا الفراغ يرتبط أيضاً بمعادلات من نوع آخر. فتشكيل الحكومة سيعني فرض سلطة تنفيذيّة تتحمّل كرة نار الملفات الشائكة، ومنها كرة نار ملف الدعم وما يحمله من تداعيات على المستوى الشعبي. كما يبدو أن هذا الفراغ بات وسيلة للحؤول دون تشكيل سلطة يمكن أن يضغط عليها المجتمع الدولي للسير بالإصلاحات التي يمكن أن تمسّ مصالح بعض النافذين في النظام المالي.
المشهد المتوقّع هو كالتالي:
- غياب الحكومة سيترك الساحة مفتوحة أمام حاكم المصرف المركزي للسير بخططه للتعامل مع أزمات النظام المالي.
مشاهد عديدة تعكس ما يجري على مستويات مختلفة، لكنّها تتقاطع في إنتاج خلاصة واحدة: نحن ذاهبون باتجاه صدمة قاسية على الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع. وهذه الصدمة لم تنتج عن إهمال أو تلكّؤ فحسب، بل عن قرارات مدروسة وهادفة، تعرف إلى أين توجّه الأزمة وكلفتها.