تشير النقاشات الدائرة في لبنان حول سرديات الهزيمة والانتصار وخيارات التقسيم والعيش المشترك ومسألة حماية المدنيين، إلى خطر أكبر من الحرب نفسها. فالحرب ليست مرحلة قتل ودمار مادي وحسب. الحرب آلة مدمّرة للتماسك الاجتماعي، وبالتالي قاتلة للفضاء العام وللقدرة على إنتاج مساحة نقدية، كالتي تمحورت سابقاً حول «الحركة اللاطائفية». ولكن عن أي «حركة لاطائفية» نتحدث وسط كل هذا الدمار والموت والشلل؟ وعن أي «تحوّلاتٍ جذرية» نتحدّث وسط بعض التحليلات التي تتنبّأ بـ«حتمية الحرب الأهلية»؟ فكيف يمكن لحركة، تقوم على الرأي العام، أن تؤثر على السياسة في سياق هيمنة العنف كأداة للعمل السياسي؟
على الرغم من الانقسام «المكبوت» في السنوات الأخيرة، اجتمعت مكوّنات هذه الحركة حول مفهوم دولَتِيّ وإصلاحيّ ودستوريّ، يتمحور حول إنقاذ لبنان اقتصادياً وسياسياً وسط انتفاضة 2019. لكنّ الحرب غيّرت المعادلة. فالحركة اللاطائفية ليست حركةً ثابتة أو جامدة في التاريخ، بل يتغيّر شكلها وموقعها حسب اللحظة والسياق. والسياق القائم في السنة الأخيرة لا يُظهر حجم وتأثير هذه الحركة بوضوح، لكنّها مؤثرة في الرأي العام والصحف والكتابات الأكاديمية والكتابة النقدية ومواقع التواصل الاجتماعي، ولو لم تلعب دوراً عسكرياً مادياً بشكل خاص. كما أنّ هذه الحركة مقسومة، ولديها أوجه مختلفة- ما بين وجه «ليبرالي سيادي» يرفع شعارات السيادة والاستقلال، ووجه «يساري أو قومي عربي» يرفع شعارات التحرر الوطني والمقاومة. بعض الملاحظات قد تفيد المرحلة الآتية بالنسبة لخيارات هذه القوى المجتمعية والتنظيمية.
الحروب تهدم ولا تبني: استعادة الرأي العام
على عكس ما يُقال في أوساط حزب القوّات اللبنانية اليوم، ليست الحروب «فرصاً للتغيير». الحروب هي تحوّلات عنيفة ومدمِّرة للمجتمعات. أمّا فرصة «المعارضات»، فتأتي «ما بعد بعد» الحرب. تبدأ عند تشكيل سياسة مُنتِجة للغة تجمع ما بين أساطير متناقضة لفئات اجتماعية وطائفية متنازعة. الشروط المادية والبنيوية تفرض التغيرات الاجتماعية الكبيرة. لكن هذه التغيرات تبقى غامضة وبلا اتجاه من دون «العمل السياسي القصدي» الذي يثبّت «قصة جديدة» تختلف عن «قصص الماضي».
على سبيل المثال، أنتجت الأزمة الاقتصادية في 2019 انتفاضة 17 تشرين، ولكنها لم تنتج الحراك السياسي والخطابي والإعلامي الذي رافق الانتفاضة. تراكمات المنظمين والإعلاميين والكتّاب هي التي حدّدت «معنى» الانتفاضة وبالتالي «وجهتها».
الأزمات ليست كافية. هي تدمّر البنى، ولكن لن تنتج بديلاً عنها. الرأي العام هو مساحة «الإنتاج السياسي» الوحيدة. والتخلي عن الرأي العام يعني التخلي عن السياسة. فحصر السياسة بالمحاور والكتل الكبيرة والعسكر والميليشيات، وتحوّلنا إلى قوى تقدمية «مراقبة»، وتلخيص السياسة إلى اختبار عنفيّ بين جهات السلطة، يؤدي إلى قراءة مشلولة. التخلّي عن دورنا في صنع «المشهد الخطابي»، يعني ببساطة الاستسلام، أي الاستسلام لانحراف سياسي لا يشبه دورنا التاريخي.
لفهم هذا الدور التاريخي، لا بدّ أن نعي أنّه لا يمكن بناء بديل سياسي متمحور حول الدولة دون إشراك أهل جنوب لبنان والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت. ولا يمكن بناؤه دون أهل جبيل وكسروان والأشرفية. ولا يمكن تحقيق ذلك دون سردية شاملة تجمع بين أمجاد وبطولات ومظلوميات جميع الفئات التاريخية. هي سردية ترتكز على المبادرة وليس الأزمات: حرّرنا الجنوب في عام 2000، وانتفضنا في وجه الوصاية عام 2005، وانتفضنا في وجه منظومة عاجزة وقاتلة عام 2019 و2020. واليوم، كرّسنا التضامن وسط الحرب ومنعنا الحرب الأهلية.
السرديات ليست حقائق مطلقة. هي قصص أسطورية تثبت معنى وجودنا.
معضلة حزب الله بعد الحرب
ينبغي أن نستخلص الدروس من الشروط الإسرائيلية القاسية وسط الضعف الموضوعي الذي تعيشه البلاد بدولتها وميليشياتها. فإذا لم تكن هناك دروس بعد عام من الدم، وإذا لم يُفتح نقاش جادّ حول ملامح المستقبل بعد الكارثة، فمتى إذًا؟ الهزيمة الكبرى تكمن في عدم اتّخاذ خيار سياسي حاسم للانتقال من صيغة إلى أخرى مختلفة. هناك هواجس حقيقية عند كل الطوائف والفئات الاجتماعية والسياسية، ولكن علينا تقييم المرحلة بعيداً عن مراعاة الهواجس. النقد الذاتي بعد الهزيمة يحاسب الخطأ ويستبدل الثقة العمياء بمصارحة مجتمعية علنية بعيداً عن التخوين والشماتة. علينا استكمال الحوار الاجتماعي والسياسي المنتج مع جمهور حزب الله خاصةً، ودوائر الإسلام السياسي عامةً. الحوار الصريح لا يشدّد فقط على المواجهة المشتركة ضد الاحتلال والاستبداد، ولكنّه يركّز أيضاً على التباين الحقيقي في الوجهة والاستراتيجيات، كما لا يتراجع عن المواجهة الجدّية والواضحة مع بنى العنف التي فُرضت على مجتمعاتنا بشكل كامل. أمّا الردّ الطائفي على حزب الله، فيعيد إنتاج هذه البنى العنيفة ويعجز عن إنتاج بديلٍ يتعامل مع جمهور الحزب، ويبقى عمله بالتالي محصورًا بالقبلية البعيدة عن السياسة كسلّة من السياسات والخيارات الشجاعة والصعبة.
نحو نقاش كوكبيّ
النقاش القائم هو نقاش كوكبيّ، وليس محصوراً في لبنان. 7 أكتوبر حالة كوكبية، وهي نقطة تحوّل في تاريخ لبنان لأنها فرضت نقاشاً عطّل الحوار المحلي، لكوننا عجزنا عن ربط المحلي بالكوكبي. هذه الحالة الكوكبية جمعت ما بين مفاهيم عابرة للحدود، «كالتحرّر الوطني» و«الكفاح المسلح» و«نزع الاستعمار» و«مصالح دول عالم الجنوب». ولهذا الخطاب العالمي ترجمة محلية نرى تجلياتها في لبنان، وتحديداً عند الشق الإعلامي لمحور «الممانعة» بتياراته القومية والإسلامية. وهذا المسار العالمي الذي يتخطى حدود لبنان نراه أيضاً عند ما يسمى «التيار السيادي»: «لا للحرب» (شعار يُردد في أوساط أمريكية يمينية ويسارية على حدٍّ سواء)، «بناء الدولة»، «لبنان أولاً» (على إيقاع «أميركا أولاً»).
يتعامل محور «الممانعة» مع الرؤية الكوكبية بقصديّة مباشرة، فيما تشدّد المعارضة على «المحلي» كقيمة مضافة بحدّ ذاتها. المطلوب اليوم «معارضة» تتشبّث بالقيم والأفكار التي تجمعها مع قوى شبيهة في «الغرب» و«الشرق»، وتنتهز بكل وضوح «العولمة الإعلامية» التي تستطيع أن تخاطب فئات شابة هربت من السياق المحلي اللبناني نحو محاور «أكبر منّي ومنّك»: الإبادة والحروب ودونالد ترامب والهجرة والتضخم والنسوية والرجولة والماركسية والتحرر والأسواق.
نستطيع أن نطرح عشرات الملاحظات حول الخيارات المتاحة اليوم، إن كانت «واقعية» أو «طموحة». ولكن كل هذه التقييمات والتحليلات البسيطة لن تصنع واقعاً تنظيمياً جدياً من دون حوارٍ يجمع ما بين القوى المتشبثة بالمواقف التي أنتجتها هذه الحرب القاسية. إعادة تنظيم الصفوف تستوجب أولاً «خروجنا» من الحرب، في الواقع وفي السياسة.