لا ينفك النظام المصري عن استغلال كل الأحداث، الإقليمية والداخلية، لتمرير قرارات سياسية قد تتسبب في انزعاج أو اضطرابات أو اهتمام إعلامي وحقوقي واسع. اعتاد النظام منذ عصر مبارك على استخدام مبدأ «الإلهاء»، فيستغل توقيت اذاعة مباريات كرة القدم الجماهيرية مثل مباريات القمة بين قطبي الكرة المصرية، الأهلي والزمالك، أو مباراة مهمة للمنتخب المصري، ليقوم برفع أسعار السلع أو المحروقات، حتى أصبح الشعب على علم بتلك الخدعة وصارت تقليدية ومتوقعة.
أمّا اليوم، فتمرّ مصر بفترة حرجة جدًا، تتمثل في انغلاق كامل للحياة السياسية منذ سنوات رغم الاستعدادات لانتخابات رئاسية بعد أيام، إضافةً إلى أزمة اقتصادية طاحنة مستمرة بلا أفق للحل القريب، في ظل استمرار النظام المصري في نفس الإجراءات التقشفية وسياسات الاقتراض.
جاءت الحرب على غزّة بدءاً من 7 تشرين الأول بمثابة طوق نجاة للنظام المصري في اللحظة الراهنة، وقد عمل النظام على استثمارها في كل دقيقة مستغلًا انشغال العالم كله والداخل المصري بما يحدث في غزة من أجل تمرير بعض القرارات التي كانت لتتسبب في اعتراضات وإدانات حقوقية واسعة في الظروف الطبيعية. فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة ولا أحد يبالي بما يحدث داخلياً، حتى وإن كانت الانتخابات الرئاسية المرتقبة تفتقد إلى أدنى درجات الجدية أو النزاهة والشفافية أو الضمانات الانتخابية التي نادت بها القوى السياسية في مصر.
تمرير قرارات سياسية وقضائية
الانتخابات الرئاسية
قبل حرب غزّة، منع النظام المصري النائب البرلماني السابق أحمد الطنطاوي من الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، عبر التضييقات الأمنية التي فُرضت عليه وعلى أعضاء حملته ومؤيديه لمنعهم من جمع التوكيلات اللازمة لاستيفاء شروط الترشّح، بما في ذلك الاعتداء عليهم أمام مقار الشهر العقاري ومنعهم من تحرير التوكيلات، فضلًا عن القبض على 145 شخصًا من أفراد حملته، حسب ما أعلن محمد أبو الديار مدير الحملة الانتخابية. لكن مع الحرب على غزّة، قرر النظام إحالة الطنطاوي وأبو الديار و21 عضوًا في الحملة الانتخابية إلى المحاكمة الجنائية في القضية رقم 16336 لسنة 2023 جنح المطرية، بتهمة طباعة وتداول أوراق تخص الانتخابات الرئاسية دون إذن السلطات. يتشابه ذلك مع قضية قديمة في عام 2006، عُرفت باسم تزوير توكيلات مؤسسي حزب الغد، والتي حُكم فيها بالسجن 5 سنوات على السياسي المصري أيمن نور، رئيس الحزب في حينها، ذلك بعد أن خاض نور أول انتخابات رئاسية تعددية في مصر عام 2005، وخسرها أمام الرئيس الأسبق حسني مبارك.
الإعلام
بدأت السلطات المصرية في التوسّع في حجب المواقع الصحفية والحقوقية والتضييق على الصحافة المستقلة ومنظمات المجتمع المدني منذ أيار 2017، لكنها عادت مرة أخرى وتذكرت موقع «مدى مصر» المحجوب منذ ذلك الحين. فأصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام قرارًا، يوم 15 تشرين الأول الماضي، بحجب الموقع الإلكتروني لمدة 6 أشهر، لممارسته النشاط الإعلامي دون الحصول على ترخيص بذلك من المجلس، على الرغم من أن المسؤولين في «مدى مصر» تقدّموا بأوراق الترخيص ودفع الرسوم الإدارية منذ عام 2018 وما زالوا حتى اليوم يواجهون تعنّتاً في منحهم التصاريح القانونية. وفي 29 تشرين الأول، عقد المجلس الأعلى للإعلام جلسة استماع لرئيسة تحرير «مدى مصر»، لينا عطا الله، على خلفية اتهام الموقع بنشر أخبار كاذبة وتقارير تحريضية للإضرار بالأمن القومي المصري، وأخبار من مصادر مجهّلة حول سماح مصر بدخول بعض الفلسطينيين المهجّرين من قطاع غزة، حسب ما جاء في بيان المجلس.
أحكام قضائية
بعد بداية حرب غزة بأسبوعين، صدّق عبد الفتاح السيسي في 22 تشرين الأول على حكم محكمة جنايات أمن الدولة طوارئ (محكمة استثنائية أحكامها نهائية، ليس بها أي درجات للتقاضي)، الصادر في أيار من العام الماضي، بالسجن 15 عامًا للمرشح الرئاسي السابق ورئيس حزب مصر القوية، عبد المنعم أبو الفتوح. بعدها بأسبوع واحد فقط، تم تدوير المحامية الحقوقية هدى عبد المنعم على ذمة قضية أمن دولة جديدة بنفس الاتهامات التي حوكمت بها سابقاً والتي قضت بسببها 5 سنوات بالسجن، وكان من المقرر الإفراج عنها حسب القانون.
في الاقتصاد
على الصعيد الاقتصادي، مرّرت السلطات المصرية حزمةً من القرارات، بعضها كان مُعدّاً سلفًا وكثّف النظام المصري تنفيذها أو التعجيل بها في الفترة الحالية، وبعضها الآخر جاء عفويًا حسب متطلبات المرحلة، وما زالت هناك حزمة أخرى من القرارات التي تنتظر إعلان فوز الرئيس عبد الفتاح السيسي بالانتخابات المقبلة حتى يعلن عنها، وعلى رأسها قرار تعويم آخر للجنيه المصري وخفض لقيمة العملة المحلية بشكل رسمي.
ارتفاع الأسعار
منذ حرب غزّة، شهدت بعض السلع ارتفاعًا ملحوظًا في الأسعار، إلى جانب زيادة أسعار السجائر، وغلاء أسعار الوقود، وانخفاض جديد للقيمة الشرائية للجنيه المصري حيث اقترب سعر الدولار الأميركي في السوق السوداء من خمسين جنيهًا مصريًا، بينما يبلغ سعره الرسمي في البنوك حوالي 31 جنيهًا.
قرض جديد
وفي اليوم الذي تم تدوير هدى عبد المنعم فيه على ذمة قضية جديدة، كان البنك المركزي المصري يستعدّ لاستقبال قرض جديد بقيمة 957 مليون دولار أميركي من بنك التنمية الجديد التابع لتجمع البريكس، وذلك بعد الموافقة على انضمام مصر رسميًا لدول البريكس في آب الماضي، وبعد صعوبات تواجه مصر في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على قروض جديدة.
عقود إدارة وتشغيل
في الأسبوع الأول من تشرين الثاني الجاري، أعلن رئيس قطاع الموانئ في مجموعة أبو ظبي، سيف المزروعي، أنه سيتم التوقيع النهائي مع الحكومة المصرية على عقود إدارة وتشغيل ميناء سفاجا المطل على البحر الأحمر خلال أسابيع، بحق انتفاع مدته 30 عامًا في مقابل استثمارات بقيمة 200 مليون دولار. وفي اليوم ذاته، نشرت جريدة المال الاقتصادية خبرًا مجهّلًا من مصادر مطلعة دون أي تفاصيل إضافية عن اقتناص شركة قطرية لقطعة أرض مساحتها 49 فدانًا في مدينة السادات التابعة جغرافيًا لمحافظة المنوفية في دلتا النيل، عبر آلية التخصيص المباشر بالدولار. ووضّحت الجريدة أن الأرض مخصصة للنشاط العمراني المتكامل.
تعيينات
لم يمر الأسبوع الأول من تشرين الثاني حتى أصدر عبد الفتاح السيسي قرارًا رقم 234 لسنة 2023، ينص على تعيين المهندس إبراهيم العرجاني، عضوًا بالجهاز الوطني لتنمية شبه جزيرة سيناء، وهو الجهاز التابع لوزارة الدفاع المصرية. العرجاني هو رجل أعمال مصري ينتمي لقبيلة الترابين في شمال سيناء، ومعروف عنه قربه من دوائر السلطة في مصر، وقد ظهر بجوار السيسي في مناسبات عديدة، كما هو معروف بأنه مهندس العمليات والاستثمار في شبه جزيرة سيناء، ومساند للدولة في سرديتها لمحاربة الإرهاب في سيناء من موقعه كرئيس لاتحاد قبائل سيناء.
كلّ هذه القرارات الاقتصادية أو السياسية اتُّخذت خلال الشهر الأول من حرب غزة، وكان أيٌّ منها كفيلاً في الظروف العادية بصناعة ضجّة من حوله. صحيح أن النظام المصري لا يعير اهتمامًا للرأي العام، ولكنّ تمرير كلّ هذه القرارات في فترة قصيرة، إنما هو مؤشر واضح على استثمار فرصة الحدث لتمرير القرارات العالقة. هكذا يحاول النظام المصري دومًا الخروج رابحًا في خضم التناحرات الإقليمية من أجل تثبيت دعائم الحكم، وترسيخ مفاهيم القمع والاستبداد، والاستمرار في سياساته المالية التي تسببت بالأزمة الاقتصادية وأغرقت البلاد في الديون.