منذ مجزرة بيروت، لا أنام. أشبه الجثث المتنقّلة. تحطّ أبدانها على طرق الغرباء. تضيّع وجهتها. ثم تنفجر. تهدأ بتواتر لا ينتهي. كأنها لا تزال تبحث عن مقبرة. ما الذي مات فيّ؟ منذ أن رأيت مصدوماً، ذاك البركان الطالع من المرفأ، متمدّداً في الفضاء. ثم آكلاً المدينة وزجاجها. كان وحشاً بأنياب غير مرئية. يقضم الشبابيك والأبواب. يمعس أرواح المارّة والمنشغلين بالأيّام الثقيلة. ثم هابطاً على المدينة كنوم أبديّ. يحاول العالم أن يراه بحزن وشفقة، ونحن الذين علقنا فيه، نراه مأساة عمرنا.
لم يعرف جيلي الحرب إلا نهايةً. يخبرنا الأهل عنها بكتمان مغلق. يطوونها للنسيان. يطمرونها في أجسامهم التي لا بد أنها قنابل موقوتة. متعبة. غاضبة. أورثونا خوفهم، ورحنا ننبش ظلال الحرب الكثيرة في أرواحنا، معايشين صدمات البلد، انفجاراً تلو انفجار، وهزّات تلو هزّات. مشاركين في جماعاته الأهلية، متظاهرين عراة الصدر، ننطق ونخفق ونحزن ونبكي. ثم نتركه. مخلّفين أصدقاء وبيوتاً ومنازل أحببناها. حاملين إياه حقائب واهمة. لا نفرغ منها. تكبر في هواء الصدر، وعلى الكتفين، وتثقل أقدامنا في حقول الآخرين.
كان عليّ الهرب من صور هذا البركان، وأنا أحاول تمرير الوقت مع الأصدقاء. لكنه كان قد تسلل بعمق الى روحي، كما تسلّل إلى من أعرفهم في المنفى والغربة. كأنه أقام في أجسامنا. يستيقظ في الليل. يدفعنا إلى أن نراه، عبر الشاشات. مرة تلو الأخرى. ثم يحسّسنا بالذنب، إن قرّرنا التريّض أو الذهاب برحلة، أو تنفّس الهواء. كأننا لوهلة أحسسنا أننا نستحقّ الموت، وأنّ نجاتنا كانت صدفة، ولا بد أننا أخطأنا الزمان والمكان. نستيقظ من غلالات الأرق، لا النوم، محاولين الذهاب إلى حيواتنا. نسكّن أجسامنا بالحرّ، بالمشي، بالعمل، بالصمت.
أمشي في باريس، بعيون الموتى الذين رأوا الدخان يخرج من أبدانهم، ولا أنام. منذ محاولتي الأولى، بعد يومين، أن أغلق النوافذ والهاتف النقّال وأغلق رأسي وجسمي، كي أغفو. منذ تلك اللحظة، وأنا أكتشف أشباح الماضي. تأتي على دفعات. وحين تحين ساعات الفجر الأولى، أعود إلى طرابلس وبيروت. إلى عائلتي. وجه أمّي ديبة، ورأس أبي. حقول الدرّاق في قريتي بيت أيوب. شقتي الصغيرة قرب المتحف. رحلاتي اليومية إلى جريدة «الحياة». دوامات العمل الطويلة. ضحكات الزملاء في المكتب. سهرات مترو المدينة. البيرة في ديمو. الجلسات مع فراس. الصبحيات مع رشا. الرقص مع أمينة. أعود الى ذكريات كثيرة تنزل من دون توقّف في غرفتي الصغيرة. تتربّع فوق سريري. أضبضبه، كي لا يؤلمني وخزها.
أمدّ قدميّ في مساحة البيت. ليس بيتاً. إنّه استديو. 14 متراً. سجن مفتوح على سطوح باريس ومداخنها المطفأة. الصيف اللاهب يوقظ الأشباح. والوحش الذي أكل المدينة، وحطّم شرفاتها وجدرانها، رأيناه هكذا بلا حدود، ولم نعاين حطامه وموته وظلامه وركام قسوته، كما عاينه رفاقنا وناس بلدنا. لأنّنا هنا. في بلاد الآخرين. رأيناه كالذين يتمترسون وراء الشاشات، كلّ الوقت، باحثين عمن يمدّ لهم يداً. نحن الذين لا نعرف النوم هنا، ما زلنا نقيم في هذه المجزرة، بدخانها وصور الضحايا والدم والحطام. ما زال هذا كله، يهتزّ في رؤوسنا التي لا يتوقّف ألمها وقلقها منذ تلك اللحظة، التي لم نرَ حدوداً للمجزرة. كأنّ العالم كله انتهى. وكأنّ الدخان أحالنا شظايا في مدن لا نعرف كيف ننام فيها أو نلملم فيها حطامنا.