يللي شايف غير هيك خلّيه يجرّب كلّ النظريات الاقتصادية. نحنا لا بدنا نغشّ اللبنانيين ولا بدنا نعمل سباق شعبوي
سعد الحريري في الذكرى 15 لاغتيال والده
منذ بداية الأحداث الأخيرة في 17 تشرين الأوّل قلنا إنّ المعالجة يجب أن تكون بطريقة مختلفة وليس بالأسقف العالية التي طرحها البعض
حسن نصر الله في الذكرى الأربعين لاغتيال قاسم سليماني
بعدما جمعتْهما الواقعيّة السياسيّة في حكومتَيْ العهد، ها هي الواقعيّة الاقتصاديّة تجمع سعد الحريري وحسن نصر الله. فبعد 48 ساعة على خطاب الحريري في ذكرى اغتيال والده، والذي قدّم فيه العودة إلى «نقاء» الحريريّة كحلّ للأزمة الاقتصاديّة، أطلّ نصر الله على اللبنانيّين بالدعوة إلى الابتعاد عن الحماسة والتطرّف في معالجة الأزمة، محذِّراً أكثر من مرّة من معالجة الوضع الاقتصادي بطريقة راديكاليّة. في المرّة الأولى، رفض الأسقف العالية. وفي المرّة الثانية، رفض الرؤى المتطرّفة. في المرّة الأولى، غمز من قناة الثورة ومطالبها السياسيّة كالانتخابات المبكرة وإقالة الحكومة وإسقاط العهد. وفي المرّة الثانية، غمز من قناة الرؤى الاقتصادية المتحمّسة التي تريد الاستفادة من الأزمة الحالية لقلب الطاولة على السياسات الاقتصاديّة التي حكمت البلد عقوداً طويلة. وغاب عن هذا التحذير المزدوج أيّ تحذير من إعادة إنتاج النظام السابق. حتّى تصدير البطاطا إلى العراق لم يرد ذكرها. حتّى الصين واستثماراتها لم تغزُ الخطاب هذه المرّة. قال الحريري إذاً إنّه لا يرى مخرجاً إلا بتدفّقات من الخارج بالطريقة الحريرية المعتادة لإعادة إنتاج النظام نفسه، و«اللي شايف غير هيك…»، فأجابه السيّد إنّو «ما شايف غير هيك».
لكن، ما هي خريطة الطريق التي تُترجم واقعيّة نصر الله الاقتصاديّة؟
أوّلاً، عدم تحميل مسؤوليّة الانهيار لأحد أدرج نصر الله هذا الموقف في إطار الابتعاد عن المماحكات للتركيز على إيجاد الحلول. لكنّ إهمال المسؤوليّات لا يعني التخلّي عن المحاسبة وحسب، بل يعني أيضاً عدم تعيين مواطن الخلل في السياسات السابقة، وبالتالي احتمال الاستمرار بها.
ثانياً، فصل الصراع السياسي عن الموضوع الاقتصادي فنصر اللّه مقتنع، كما يبدو، أنّ الموضوع الاقتصادي ليس سياسياً، وأنّ الخلافات بشأن المخارج الاقتصاديّة ليست سياسيّة. ماذا نسمّي مثلاً خيار اللجوء إلى الاقتطاع من ودائع كبار المودعين؟ وماذا نسمّي خيار تحميل الجميع من دون تمييز أعباء الأزمة؟ بل ماذا نسمّي خيار تحرير سعر الصرف؟ كأنّ نصر الله يرى فعلاً أنّ هناك حلاً تقنياً يكفي أن يجتمع اللبنانيّون معاً، بعيداً من صراعاتهم، حتّى يكتشفوه.
ثالثاً، دياب أو يحترق البلد فإذا كان الحلّ تقنياً، مَن أفضل مِن الحكومة التكنوقراطية لإيجاد حلّ كهذا؟ لم يدافع نصر الله عن الحكومة وحسب، بل اعتبر أنّ فشلها يهدّد وجود البلد برمّته. ودعا إلى وقف التحريض عليها، وعدم تسميتها بحكومة حزب الله حتى لا يُساء إلى علاقاتها العربية (الخليج) والعالم (الدول المانحة). هنا أيضاً، يقول نصر الله للحريري: «أنا ما شايف غير هيك».
رابعاً، تشكيل لجنة من الموالاة والمعارضة لبحث الحلول الاقتصادية لكنّ كلّ هذا الرهان على الحكومة يتلاشى فجأةً، إذ يجرّدها من صلاحيّة المهمّة الوحيدة التي جاءت من أجلها، داعياً إلى تشكيل لجنة تضمّ كلّ القوى السياسية من أجل التوصّل إلى الحلّ «التقني». فإذا كانت تلك القوى مجتمعة، التي كانت تشكّل الحكومة السابقة، قادرةً على ابتداع الحلول، فلماذا وُلِدت حكومة دياب أصلاً؟
تُرِك كلّ هذا «الاعتدال» الاقتصادي إلى الفقرة الأخيرة من خطاب لم يكتفِ بإعلان المقاومة الشاملة ضدّ الوجود الأميركي في الشرق الأوسط، بل دعا أيضاً إلى مقاطعة البضائع الأميركيّة. لكنّ هذا اللعب على حافّّة الاعتدال الاقتصاديّ والتطرُّف السياسيّ والعسكري مُتاحٌ تماماً ما دامت أموال «المقاوِمين» تتدفّق من إيران، وأموال صغار المودعين تحتجزها المصارف.