مسرحيّة المنصّات
لم تكن منصّة مصرف لبنان، التي يشير إليها المصرف في بياناته اليومية، أوّل منصّة يطلقها، موحيًا بأنها ستكون الآليّة التي ستنظّم تداول الدولار، كبديل عن السوق الموازية.
كي لا ننسى:
يوم بدأ مصرف لبنان باعتماد آليّة السحوبات بالليرة من الودائع المقومة بالعملات الأجنبيّة، في نيسان 2020، اعتمد ما سمّاه في ذلك الوقت «سعر المنصّة» الذي تحوّل لاحقًا إلى سعر ثابت يتغيّر من وقت إلى آخر بحسب مشيئة رياض سلامة وحده، ودون أي اعتبار لسعر الصرف الفعلي في السوق.
ويوم أعلن سلامة عن التعميم 158 الذي قضى بتأمين السحوبات بدفعات نصفها بالليرة ونصفها الآخر بالدولار، اعتمد سعر صرف 12,000 ليرة مقابل الدولار، باعتباره تسعيرة «المنصّة» أيضًا. ثم تحوّلت هذه التسعيرة إلى رقم ثابت لم يتغيّر منذ ذلك الوقت.
باختصار:
تكرّرت مسرحيّة المنصّة عدّة مرّات منذ بدء الانهيار. وفي كل مرّة كان مصرف لبنان يحيط هذه المسرحيّات بعراضات أمنيّة، ليوحي بمحاولته فرض هذه المنصّة على الصرّافين وعلى تداولات السوق الموازية، رغم أن هذه المنصّات لم تملك يومًا مقوّمات العمل كآليّة للتداول بالدولار الأميركي بشكل حر.
فـالوظيفة الأولى لهذه المنصّات هي استعراضية، توهم بأنّ مصرف لبنان قادر على استيعاب تداولات السوق الموازية. وهذا دون مقاربة المسألة بشكل جدّي أساسًا، بدلالة عدم تصميم المنصّات بشكل يسمح بتأدية هذا الدور.
بيان نقابة الصيارفة
ثمّة ملاحظات لا تنتهي على عمل الصرّافين في السوق الموازية، وتحديدًا من ناحية ارتباطهم بعمليات المضاربة على سعر صرف الليرة اللبنانيّة واستفادتهم من حالة فوضى سوق القطع لتوسيع هامش أرباحهم. ولهذا السبب، لا يمكن للمرء في أي نقاش اقتصادي جدّي أن يتورّط في محاولة الدفاع عن دورهم وطريقة عملهم الملتبسة.
مع ذلك، فإنّ كل ما سبق ذكره لا ينفي أن بيان نقابة الصيارفة الأخير، والذي نعى المنصّة الحاليّة كدور ووظيفة، أصاب الحقيقة في العديد من النقاط، خصوصًا وأنّ البيان صدر عن جهة تعرف «البير وغطاه» في ما يخص هذه المنصّة.
فالمنصّة لم تعمل كآليّة لبيع وشراء الدولار طالما أنّ:
- المنصّة لا تحدّد أساسًا السعر اليومي الذي يفترض أن يتم على أساسه بيع وشراء الدولار في سوق القطع.
- يقتصر عمل المنصّة على تحديد متوسّط السعر الذي اعتمده مصرف لبنان –بشكل استنسابي وغير مفهوم- لبيع الدولارات من خلال المنصّة خلال النهار.
- السعر الذي يقدّمه مصرف لبنان لا يعكس توازنات العرض والطلب في السوق الفعليّة، ولا علاقة بسعر السوق الحرّة.
تلخّص هذه النقاط مضمون البيان الذي تمّت صياغته بعبارات تقنيّة منمّقة.
من الناحية العمليّة، يمكن القول إنّ ما ورد من نقاط يكفي للاستنتاج بأنّ ما يقدّمه مصرف لبنان لا يمثّل منصّة تداول فعليّة، بل مجرّد مسرحيّة أخرى شبيهة بالمنصّات السابقة. وفي كل الحالات، من الأكيد أن هذا البيان كان يعني عمليًّا أن الصيارفة أجهروا «ردّتهم» على هذه المنصّة وما تمثّله من دور حاول مصرف لبنان استعراضه طوال الفترة الماضية.
ألغاز المنصّة
في الواقع، ثمّة الكثير من الملاحظات على المنصّة المعتمدة من قبل مصرف لبنان، والتي لم يتحدّث عنها بيان الصيارفة، لاقتصاره على الجانب المتعلّق بالدفاع عن اعتمادهم تسعيرة السوق الموازية بدل تسعيرة المنصّة.
فعلى سبيل المثال:
- لا يوجد ما يشرح اليوم طريقة تحديد المحظيين الذين يستفيدون من دولارات هذه المنصّة، التي يتم بيعها بسعر مدعوم مقارنةً بتسعيرة السوق السوداء التي يعتمدها سائر المستوردين. مع الإشارة إلى أنّ معظم فروع المصارف تمتنع اليوم عن تأمين هذه الدولارات للشركات والأفراد.
- لا يوجد ما يشرح مصدر هذه الدولارات، أو بالأحرى: الجهة التي تدفع كلفة بيع الدولار بالسعر المدعوم. هل تستنزف هذه المنصّة دولارات الاحتياطي؟ أم بعض الدولارات الواردة إلى الدولة اللبنانيّة كمساعدات من الخارج؟ أم بمصادرة دولارات المساعدات الموجّهة للاجئين مقابل دفعها بالليرة؟
- أخيرًا، لا يوجد أي قاعدة لتحديد سعر صرف هذه المنصّة.
ما يجري اليوم على مستوى سعر الصرف، وفشل المنصّة المتعمّد، يأتي كمزيج من فقدان النيّة وعدم امتلاك القدرة على إنجاح هذه المنصّة. ولهذا السبب، فإنّ ما أعلنه بيان الصرّافين –بنبرة تقنيّة- هو مجرّد نعوة للمنصّة الحاليّة، بانتظار مبادرة أخرى ومنصّة جديدة من صناعة حاكم مصرف لبنان.