منذ لحظة تبلورها، وهناك هواجس تواكب ثورة تشرين. هواجس نابعة من تجارب ماضية، عاشها البعض، أو جاورها عن بعد، جغرافياً أو زمنياً.
في البداية، كان الهاجس الأساسي الاستمرار بالثورة، بوجودها في الشارع وتوسّعها. فكان السؤال «خلصت؟» يعاد كل بضعة أيام، قبل أن يحصل شيء جديد يؤكد لنا أن هذه الثورة باقية وتتمدّد. كان الهاجس نابعًا عن تجارب ماضية، لم تستطع فيها الحركة الاحتجاجية الاستمرار في الشارع والامتداد شعبيًا، فسادت حالة من الحذر تجاه ما يجري، قبل أن نلاحظ أن أكثر من أسبوعين مضيا وما زال الناس ينتفضون.
أطلق استمرار الثورة في الشارع مسلسل محاولات استغلالها والسيطرة عليها من قبل أطراف سياسية مختلفة، فباتت الهواجس من استمالة الثورة وتطويعها. شكّل حزب الله الهاجس الأول، حيث حاول إعلامه تصوير الثورة كامتداد مدني لسرايا المقاومة. وبعد فشل هذه المحاولة واستدعاء السيد حسن لمقاوميه، جاء دور القوات اللبنانية التي رأت في الثورة، بعد استقالتها من الحكومة، حليفًا تستبدل به تحالف «أوعى خيّك». التجربة لم تدُم وانتهت مع عودة القوات إلى تحالف الأحزاب في انتخابات نقابة المحامين.
مع نهاية هواجس السيطرة من قبل قوى سياسية راهنة، انتقلنا إلى الهواجس من سيطرة روايات معلّبة على مسار الثورة. كانت البداية مع التهويل من «الانزلاق» إلى حرب أهلية، وهو الهاجس المشترك لكل من تنتابه الريبة من أي تغيير أو حركة شعبية. فالمسّ بالنظام أو زعزعة حالة التوازن في بلد مثل لبنان يؤدّي لاضطرابات تنتهي بحالة حرب، أو هكذا كان الدرس التأديبي التي تعلّمناه من حروبنا الأهلية. وعندما مرّت هذه الموجة، جاءت رواية «14/8 آذار» لتحاول السيطرة على مجرى الأمور. ولكن مهما عنْوَن البعض، استطاعت الثورة التفلّت من هذا القالب القاتل لأي إمكانية تغيير في الوضع الراهن.
أما اليوم، وبينما تحتفل الثورة بعيد استقلالها الأول، بدأت هواجس جديدة بالظهور. الهاجس الأوّل هو هاجس تحوّل الثورة إلى «فولكلور مدني» يتعايش مع الوضع القائم، ليحوّل الثورة إلى نزهة للضمائر المدنية المرتاحة. وغالباً ما يتزامن هذا التحوّل مع انغلاق حلقة الناشطين والناشطات على نفسها، والشروع بعمليات سحل بعضهم بعضاً—عفوًا توجيه «النقد الحاد» لكي لا ينزعج بعض النقّاد الحسّاسين—كما جرى في حراك العام 2015.
ولكن هناك هاجس أهمّ، وربّما من الصعب التحدّث عنه الآن، وهو الهاجس الذي أثارته زيارة «بيروت مدينتي» لقيادة الجيش. صحيح أنّنا لسنا في مصر، ولكنّنا عايشنا «مظاهرات ٣٠ يونيو» التي ربّما ما زال المصريون يدفعون ثمنها، كما رأينا اليوم مع صحافيّي موقع «مدى مصر». فثورة تشرين قامت، في جزءٍ منها، على تصدُّع التوافق الرئاسي الذي حكم البلاد. ومن هذه التصدّعات، الشرخ الذي بدأ يظهر بين مؤسسة الجيش والأحزاب الحاكمة. وبعيدًا من حبّ البعض للجزمة العسكرية والرفض المبدئي للعسكرة، هناك سؤال عن دور الجيش بات ملحًّا طرحه لمحاولة فهم ما يحيط بالثورة. فكثرة أعلام الجيش في التظاهرات باتت تثير الريبة، مهما اعتقدنا أنّ جيشنا مختلفٌ عن جيوش المنطقة.