وهم الحريّات
أوحى الفراغ الناشئ من جراء عدم الانتقال السلمي للسلطة، ووصول هيئة تحرير الشام للسلطة بشكل فجائي في 8 كانون الأول 2024، ووجود أصوات نقدية جادّة لممارسات السلطة، بأن هناك حريات واسعة في سوريا. كما سمحت المراقبة الدولية الشديدة لسلوك السلطة باعتقاد كهذا.
لكنّ الواقع عكسُ ذلك، وسلطة دمشق لم تتجاوز سلوكياتها في إدلب.
فشُكِّلت «الأمانة العامة للشؤون السياسية» التابعة لوزير الخارجية، بما يخالف عمل الأخير كمتخصص بالشؤون الخارجية للسلطة وللدولة، وأصبح لها مكاتب في كل المدن السورية، وباتت تلعب دوراً مركزياً في مراقبة كافة أعمال الدولة ونشاطات منظمات المجتمع المدني ومختلف الفعاليات الثقافية في المحافظات. كما عاد الاعتقال السياسي ليطلّ برأسه في الأشهر الأخيرة، وبدأ القتل يُمارس في الطرقات وكذلك في الأفرع الأمنية والشرطية. أضف إلى ذلك غياب أيّة معلومات عن آلاف الضباط من النظام القديم، وسط اعتقاد بأنَّ الكثير منهم معتقل في سجون إدلب، أي في سجون هيئة تحرير الشام، التي لم يغادرها معتقلوها كما حصل في لحظة الخلاص من بشار الذي أُفرِغت سجونه ومعتقلات أفرعه الأمنية، وبالتالي لم تلتزم السلطة بقولها للسجناء: أنتم الطلقاء مع وصولها إلى دمشق.
أن يتباهى إعلاميّو السلطة بفسحة الحريات هذه، بسبب وجود أصوات نقديّة وبحجّة أنّ أجهزة أمن بشار الأسد كانت تعتقِل كل من ينتقد، ففي هذا الكثير من مجانبة الصواب والدعاية الكاذبة للعهد الجديد. نوضح: لا تكمن المسألة في أن السلطة الحالية رفضت أي كلمة عن الديموقراطية، ورفضت تقديم فرد واحد للمحاكمة من جيشها أو أجهزتها الأمنية، كما كانت تفعل سلطة بشار الأسد بالضبط. لا. بل إن الانتهاكات الواسعة بدأت من اليوم الأول لهروب بشار الأسد، قتل، إذلال طائفي، خطف، نهب، أتاوات، تهجير للشيعة خاصة، ومورس ذلك بشكل عشوائي وطائفي، في حمص وأريافها الغربية بالتحديد. وتظاهر الأهالي هناك مرّات عدة، وطالت الانتهاكات بصفة خاصة العلويين ولا سيما في الساحل، وقُتل المئات قبل 3 آذار، وبين التاريخ هذا و9 آذار أكثر من ألف وأربعمائة شخص. ولم تتوقف الانتهاكات حتى هذه اللحظة، ولا سيما خطف النساء العلويات. أضِف إلى ذلك ما جرى في أشرفية صحنايا بريف دمشق ثم في السويداء بشهر تموز وآب 2025.
وبالتالي، عن أيّة حرياتٍ يجري الحديث.
الخيار الأمني والعسكري
ما دامت العلاقة مع الشعب تقوم على الخيار الأمني والعسكري (لاحظ أن من انتخب الرئيس في مؤتمر النصر في 29 كانون الثاني 2024 هي الفصائل العسكرية)، فمن سيتكلم من المواطنين عن انتهاكات عناصر السلطة الأمنية أو العسكرية، ومن سيتكلم عن كيفية إدارة الاقتصاد بشكل فاشل، وعن اللجان السرية للتفاوض مع رجال بشار الأسد (الضباط ومحاسيبه من رجال الأعمال) وتحصيل نسب مالية ضخمة خارج مؤسسات الدولة؟ هناك الكثير مما نشرته وكالة رويترز وهيئات سورية حقوقية ودولية يعالج قضايا الاعتقال والقتل وشبكات الفساد والصفقات الاقتصادية المشبوهة. وحتى التقرير الأممي في 14 آب 2025 عن انتهاكات الساحل تضمّن القول بوجود أعمال عنف ترقى إلى جرائم حرب، وأعمال قتل واذلال ممنهجة ومشاركة فصائل تابعة لوزارة الدفاع بهذه الأعمال. حين يحدث القتل، ودون محاسبة، فإنه لا وجود للحريات العامة، ومن يَنتقد فهو ينتقد على دمه كما يقال، أي يحاول الاستفادة من ضعف السلطة وعدم تمكنها بعد.
هناك كمية هائلة من العنف المجتمعي، المحميّ من السلطة، وقد أعطى إنذارات متشدّدة لنقّاد السلطة، مرة في ساحة المرجة بدمشق عندما هوجم معتصمون في 9 أيار 2025، وأُخرى عند مبنى البرلمان السوري عندما هوجم مدنيون مسالمون في 19 تموز 2025، وكانوا يرفعون شعاراً بسيطاً وعميقاً، بأن دم السوري على السوري حرام، ولم يرفعوا شعاراً بفك الحصار عن السويداء كما سبق أن فعل نشطاء الثورة حين رفعوا شعار فكّ الحصار عن درعا 2011. لوحقوا بالعصي، والشتائم الإبادية، وهُدِّدوا بإنهاء الاعتصام، وسواه. هناك أيضًا حادثة القاضي (أحمد حسكل) في حلب في 27 أيار 2025، والذي أُذِلّ، وأُجبِر لاحقاً على قبول الاعتذار منه، واعتذر هو بدوره من الذي أذلّه، مع أنّه هو المُعتدى عليه. هذا بمثابة إغلاق للمجال العام.
حين لا تتقونن الحريات، ولا يُقرّ بها، ويُعلن ذلك عبر الاعلام، ويظل إعلام السلطة تجييشياً وطائفياً وإنكارياًّ، فإنّ الخيار الأمني والعسكري يتحوّل إلى ممارسات السلطة: مجازر الساحل، السويداء، مهاجمة الاعتصامات، اعتقالات عشوائية، وتضييق وملاحقات لبعض الصحافيين، وبالتالي، ما يُفسِّر قوة النقد هو ضعف السلطة وانتقاليتها ولا شيء آخر.
رفض التعدّديّة
باعتبار سوريا تمرّ بمرحلة انتقالية، وباعتبار أن السلطة حسمت أمرها رافضة التعددية أو الحريات أو أي تمثيل انتخابي للشعب، وأعلنت بإعلانها الدستوري عن تشكيل مجلسٍ للشعب معيّن من الرئيس ولجان يشكلها هو بنفسه، وبدأ عناصرها بالقتل والاعتقال، فإن كل حديث عن وجود للحريات حديث كذب بامتياز. بعكس تصوّر السلطة، فإن المرحلة الانتقالية تستدعي التعددية والاختلاف والحريات العامة، والاعلان عن الوصول إلى النظام الديمقراطي في نهاية المرحلة الانتقالية مثلاً، وهذا ما لم يُقرّ به.
يستدعي النقاش أعلاه، واستحضار بعض الوقائع بغاية التوضيح، السؤال عن أسباب رفض السلطة المنهجي لخيار التعددية، وإشراك الشعب.
هناك أسباب كثيرة لهذه الإشكالية، تبدأ من الرؤية الاستراتيجية لشخصيات السلطة الطائفية لكيفية إدارة الدولة. نقصد الرؤية السلفية التي تستهدف فرض تصوّرها الكامل على كافة الطوائف، بدءاً بالسنّة، وهي تتناقض كليّاً مع مفاهيم المواطنة والديموقراطية أو التعددية أو الحريات العامة. هذه السلطة لم تَنتقد رؤيتها السابقة في أن الديموقراطية كفر، ولا يعطي القول اللاحق تفسيراً جاداً: كانت «طيش شباب». لا. كانت هناك رؤية سلفية جهادية، وكانت هي المرجعية في كافة ممارسات «هيئة تحرير الشام» ما قبل الوصول إلى دمشق. ويستدعي تجاوزها إعلاناً واضحاً، بالتخلي عنها، وهو ما لم يحدث، بل وضِعت الشخصيات الأساسية في «هيئة تحرير الشام» في كافة المناصب القيادية في السلطة والدولة. إنّ رؤيةً كهذه تقيّد، حتى الشرع نفسه، بشأن تجاوزها، وهو بدوره يخشى التفكير بذلك، وهو الطامح لحكم سوريا لعقود مستقبلية. وهذا سبب كبير لرفض إشراك الخبرات السورية المستقلة في إدارة شؤون الدولة. فعسكرياً، لم يستدعِ الضباط المنشقين، ولا الوزراء المنشقين، وسواهم، وهناك شعور طاغٍ لدى نشطاء الثورة الشعبية في 2011 باستبعادهم بشكل منهجي عن المشاركة بإدارة الدولة. إنّ تبنّي هكذا رؤية، أيديولوجية، يستدعي مركزة السلطات بشكل مطلق بيد الرئيس، كما تمَّ في الإعلان الدستوري، أو القيادات العليا في الدولة، وهذا يَفترض وجود دولة باطنية، مرتبطة بقيادات هيئة تحرير الشام «المُنحلة». وقد ناقش تقرير رويترز «الاقتصادي»، الصادر في 24 تموز 2025، هذه القضية بالتفصيل. السلطة، وفقاً لهذا التحليل، لن تكون ديمقراطية، لا الآن ولا لاحقاً، وسياساتها الاحتكارية تؤسس للاستبداد. كان من الممكن الاكتفاء بثلاث سنوات للمرحلة الانتقالية، لكنّ الإصرار على جعلها خمس سنوات يُخفي رغبةً في تكريس السلطة الحالية كسلطة مستقبلية ومستبدة في حكم سوريا.
الموقع الطبقي للسلطة
هناك عامل مركزي لتقييم أيّ سلطة، وهو توجهها الاقتصادي وموقعها الطبقي في الاقتصاد. أيّة قراءة لهذا الموضوع، كما لتجربة إدلب، توضّح غياب أيّ مشروعٍ اقتصادي تنموي بما ينهض بالصناعة والزراعة والتجارة الوطنية أو العدالة الاجتماعية. كانت تجربة إدلب الاقتصادية محتكرة لصالح شخصيات بعينها، ضمن دوائر أحمد الشرع. كما كانت الشركات الأساسية في إدلب تَحتكر كافة البضائع، وتعمل في إطار التجارة بشكل رئيسي، وتفرض ضرائب كبيرة على منظمات المجتمع المدني. أما الزراعة التي يعمل بها أكثرية المجتمع، فلم تتلقَّ أيّة عناية. تتناسب تجربة إدلب مع اقتصاد الحرب ولصالح جماعة بعينها، كما الحال مع قسد وفصائل الجيش الوطني، بل وفي السنوات الأخيرة أصبح اقتصاد بشار الأسد كذلك، والذي انهار تقريباً، وصار يعتمد على الكبتاغون والنهب المنظم للدولة.
أمّا في الوضع الراهن، فتقتضي نهضة سورية طبقة رأسمالية واعية لوضعها الخاص، ولمشروعها كما للوضع الاقتصادي العالمي، وكذلك للمرحلة الانتقالية، ووضع رؤية استراتيجية تشكّل مرجعية للمشاريع الاقتصادية. ويتطلّب ذلك أيضاً وجود قوى سياسية ونقابات فاعلة، وهذا كلّه غير متوفر. فتوجّهات السلطة الراهنة مقطوعة الصلة بكل ما ذكرنا، وعدمُ وجود رأسمال «تاريخي» وثروات لدى كبار رجال السلطة يوضح غياب أي مشروع نهضوي. وبالتالي، تتلاعب السلطة بمشاريع، أو تتبنى رؤى لا تعي خطورتها، تتحدث عن بيع أصول الدولة الاقتصادية أو استقدام شركات عربية وعالمية دون خطة اقتصادية تُحدد لهذه الشركات المجالات الاقتصادية التي يمكن العمل من خلالها، وبما ينسجم مع خطة اقتصادية للنهوض بالاقتصاد وخطة وطنية للنهوض بالمجتمع وتأسيس السياسة على الديمقراطية والمواطنة.
ضعف السلطة سبب استبدادها
تعي السلطة هشاشة وضعها الطبقي والاقتصادي، وتتّجه لتشكيل نظامها الاستبدادي، واللعب بالمجتمع عبر تسييس طوائفه وقومياته وعشائره، ووضعها بحالة حرب (صفرية)، كما جرى في الساحل والسويداء. تتبنى السلطة خطاباً إنكارياً في الإعلام، لممارساتها الأمنية والعسكرية، واتهام كافة الفعاليات المجتمعية والسياسية بمواجهة الدولة والتحريض عليها، كما فعل مستشار الرئيس للشؤون الإعلامية، أحمد موفق زيدان، في إطلالته الأولى بعد تسلمه منصبه، على قناة الإخبارية الرسمية في 17 آب 2025. وبالتالي، ولأنها سلطة مقطوعة الصلة بقضايا المجتمع، فلن تستمرّ في الحكم.
إنّ مختلف التحديات الداخلية تفرض على السلطة إيجاد الحلول والمخارج. لكنّ ضعفها الشديد، وتاريخها الجهادي، وعدم حذف تهمة الإرهاب عنها في مجلس الأمن الدولي مثلاً، يدفعها لإغلاق المجال العام، ورفض أيّ شكلٍ من أشكال الشفافية حول صلاتها الخارجية، أو عن مضمون الاتفاقات الاقتصادية التي تعقدها، والتي لم تُعلن. ضعفها الشديد يحكم عليها أن تسيس البنى الاهلية وتضعها بحالة صدامٍ صفريٍّ. فيصبح العلويون جميعهم فلولاً، والأكراد جميعهم قسد، والدروز جميعهم الهجري، وهذه وصفة للحرب الأهلية. وأسوأ ما يحدث استخدام العشائر في مواجهة الدروز، وتشير التقارير الصحفية إلى تحشيدهم ضد الأكراد، وإمكانية حدوث معارك في شرق سوريا.
إذاً، إن طبيعة السلطة كسلطة مستبدة، تضع عليها القيود المانعة للانتقال الديموقراطي، وتدفعها للسير نحو نظام استبدادي متكامل. هذه الوضعية تتطلب تغليفاً وتنميقاً، كأن تُشكّل لجاناً للهيئة العامة للعدالة الانتقالية أو للمفقودين أو لجان للتحقيق لا تقول الحقيقة عن الساحل والسويداء، أو لجنة عليا لتعيين أعضاء مجلس الشعب، هدفه إلهاء السوريين وتمرير الوقت ريثما تنال الشرعية الخارجية وتتلقى الأموال بما يؤبّد حكمها. وبالتالي، سيتزايد الخيار الأمني والعسكري، وستتراجع الحريات، كلما توطدت السلطة.
ضعفُ السلطة الشديد حوّلها إلى أداة لتأمين مصالح الخارج، وحتى التفريط بالمسألة الوطنية. ويأتي بهذا الاتجاه لقاء الشيباني الأخير في باريس بتاريخ 19 آب الماضي مع وزير الشؤون الاستراتيجية ورئيس جهاز الاستخبارات، الصهيونيَّيْن، لمناقشة شؤون الجنوب والتأكيد على وقف إطلاق النار في السويداء. وهناك من يقرأ هذا اللقاء كشرطٍ لتأبيد السلطة لنفسها في الحكم، وربما كان هذا ما دفع وزراءها للذهاب إلى روسيا، بقصد إيجاد توازن لتستطيع النجاة بنفسها من الضغط الصهيوني والأميركي. وقد تكون خطوتها الأخيرة أسوأ قرار اتخذته، فروسيا ضمن حلف آخر، ومن غير المسموح به أميركياً الجمع بين حلفين معاً. ففي السياسة، وخاصةً لسلطة هشة، لا بد من تحديد التموقع في حلفٍ ما.
إنّ سلطة كهذه لا يمكن أن تستمر طويلاً، والسبب هو حجم التحديات المعقدة، وطبيعة مشروعها العام (السياسي، الاقتصادي، التعليمي، الثقافي، السلفي) مقطوع الصلة مع مواجهة تلك التحديات؛ إنّها سلطة أقلوية، وحظوظها بالبقاء هامشية. فهل يمكن لسلطة كهذه أن تعترف بالحريات؟ الأكيد: لا.