انتعشت في الآونة الأخيرة بورصة أسماء المستوزرين ومرشّحي رئاسة مجلس الوزراء، مع تركيب لوائح لحكومة التكنوقراط العتيدة كأنها تشكيلات لفريق كرة قدم أو مرشحي مسابقة ملك جمال لبنان. ويُعتقد أن مصدر هذه اللوائح قد يكون من «شخصيات» تطمح لتولي حقائب وزارية ترمي اسمها في الساحات، أو من جهات وأجهزة تبغي زرع بلبلة ومشاكل بين الثوار.
ما يجهله هؤلاء أن ثورة 17 تشرين هي ملك الناس وحدهم، لا مكان فيها لأي مشاريع وتدخلات شخصية أو خارجية، كما لا مكان فيها للمتسلّقين والطامحين والانتهازيين الذين يدّعون تمثيل مطالب الثوار والتوزّر عنهم. الشرعية لأي كان تأتي فقط من الشعب عبر انتخابات واستفتاءات، والشعب الآن يطالب ولا يفاوض، يُعانِد ولا يُعيِّن.
ما هي مطالب الثوّار؟ بمجملهم يريدون تغيير المنظومة الحاكمة برمّتها، عبر خطوات متتابعة وواضحة: تعيين حكومة انتقالية من خارج الأحزاب الحاكمة ومن أصحاب الكفاءة، مهمّتها الإنقاذ الاقتصادي والاجتماعي، ومكافحة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة عبر قضاء مستقل، وإعداد قانون انتخابي عادل لإجراء انتخابات نيابية مبكّرة. طبعاً مطلب استقالة رئيس الجمهورية صعد مؤخراً في سلم الأولويات، بالرغم من يقين الكثيرين أنه صعب التحقيق حالياً.
ونجد بين المحتجّين مجموعات انبرت الى تحديد مواصفات وتركيبات الحكومة العتيدة، مروراً بصفات الوزراء المطلوبة واختصاصاتهم وبرنامج عملهم. ولكن أغفل هؤلاء معضلة أساسية تتمحور حول طبيعة المرحلة الانتقالية. فالثورة حقّقت أوّل إنجاز بتطيير حكومة المحاصصة والفساد، ولكنّ الوصول للمطالب التالية يمرّ حكماً بالطبقة الحاكمة (إلا إذا تمّ الانقضاض الثوري على كافة أركان النظام وتطييرهم، وهذا غير ممكن حالياً). فالأولوية هي لتمرير مرحلة انتقالية ناجحة وآمنة توصلنا الى الانتخابات.
فعلى الثوار «مساكنة» السلطة لمدة معيّنة، دون مهادنتها. مجلس النواب الحالي هو من يسمّي رئيس الحكومة ويعطي الثقة الدستورية لبرنامجها. موظفو الدولة الأساسيون، الذين عيّنتهم السلطة، هم من سوف تعمل معهم الحكومة الجديدة، أقلّه في البداية. طريق الثورة طويل، وعلى الثوّار أن يبقوا في حالة ثورة وترقّب دائمين، بعيون ساهرة حتى تحقيق المطالب.
لا ينفع التباري حول إنتاج أفضل البرامج الحكومية واختيار أفضل الأسماء (كيف يتمّ هذا لا نعلم). فالحكومة المقبلة ستكون ضمن السلطة القائمة، وإن تمكّن الثوّار ربّما من تحقيق بعض المكاسب في شكلها وأعضائها. يكمن التحدّي في كيفية استكمال الضغط الشعبي لتطبيق برنامج حكومي يخدم أولويات الثورة، بغضّ النظر عمّن يستلم مقاليد الحكم. وهنا الخيار البديهي هو بقاء الثوّار في موقع المعارضة الشعبية وبناء أطر قطاعية ومناطقية للضغط المستمر على الحكومة القادمة، دون الدخول في بازار التوزير والحقائب.
ولكن هناك نظرية تقول إنّ وجود معارضة في الداخل قد يكون مفيداً، لجهة الرقابة اللصيقة وايصال المعلومات الداخلية للثوار. يتّكل نجاح هذه الاستراتيجية، إن رغب الناس باعتمادها، على معايير تستند إلى تجربتنا مع وزراء «مستقلّين» انضمّوا إلى الحكومات في العقود الأخيرة.
المعيار الأول: الاستقلال الفعلي عن أحزاب السلطة. وهذا يتضمّن المواقف السياسية وأيضاً المصالح المهنية الشخصية. ألا تذكرون وزراء اعتقدنا أنّهم مستقلون وفوجئنا بمرجعياتهم في السلطة؟
المعيار الثاني: أطر العمل وبرنامج الحكومة الجديدة. فما نفع الدخول فيها إن كانت الملفّات الأساسية سوف تُدار وفق منطق المحاصصة والتوزيع بين المستشارين؟ هل نريد للثورة أن تتمثّل في الحكومة بوزراء يعطونها شرعية ولا يؤثّرون في قراراتها؟ الضمانة الوحيدة هنا قبل الانضمام إلى أي شيء هو التزام الطبقة الحاكمة (رؤساء ومجلس نواب) بمطالب الثورة، وترجمة هذا الالتزام في البيان الوزاري وتوزيع الحقائب والمهام ضمن الحكومة.
وفي كل الأحوال، يتطلّب تحقيق مطالب الثورة الباقية ثورة اعتراضية رقابية دائمة على كل من يستلم مقاليد الحكم، حتى لو جاؤوا كلّهم من رحم الثورة. فليكُن شعارنا قبل التكليف والتشكيل وبعده: يسقط الوزير والرئيس القادم.