مأزق 8 أكتوبر
بعد عشرة أشهر على إطلاق جبهة الإسناد، لا يبدو أن هناك أفقاً لهذه الجبهة، وباتت حججها تضعف مع مرور الزمن وتحديد سقف الردود الممكنة من جانب حزب الله في المعركة. فعندما أعلن حزب الله إطلاق جبهة الإسناد في 8 أكتوبر، حتى من دون علم مسبق بعملية طوفان الأقصى كما قال نصرالله، لم يكن يتوقع أحد استمرار الحرب لأشهر وتحوّلها إلى إبادة برعاية دولية. فتح حزب الله الجبهة في ظلّ توتر داخلي حول سلاحه وفي وضع إقليمي متفجّر، محاولًا أن يقدّم دعمه للداخل الفلسطيني من دون أن يقع في حرب أوسع. لكن بعد عشرة أشهر على إطلاق هذه الجبهة ومعادلتها الصعبة، تبدو النتيجة ثمناً ميدانياً مرتفعاً للحزب واعتراضاً سياسياً داخلياً أكبر مع انحسار فعالية الدعم، وذلك ضمن معركة لا أفق واضحاً لها.
معضلة الردّ
ظهر هذا المأزق بوضوح مع الردّ الأخير الذي قام به حزب الله للانتقام من اغتيال قائده العسكري فؤاد شكر. فبعد شهر من الانتظار، جاء ردّه العسكري مضبوطًا بقواعد اللعبة، أي ضرورة تفادي توسيع الحرب والتماشي مع مسار المفاوضات المتعثّر، ما أظهر حدود الإسناد الممكن والتآكُل التدريجي بموازين القوى على الجبهة الجنوبية. دفعَ ذلك بعض داعمي المقاومة إلى إبداء نقدهم لهذا الردّ، معتبرين أن أثر العملية وحجمها لم يكن متناسبًا مع حجم الجريمة الإسرائيلية، أو مطالبين بتحديد معنى «وحدة الساحات» بعد هذه العملية.
قد تشير هذه الانتقادات الصديقة إلى أزمة أكبر داخل محور الممانعة، لكنّ أهميتها الفعلية تكمن في إظهارها مأزق جبهة الإسناد بعد أكثر من عشرة أشهر على إطلاقها. فبالإضافة إلى الثمن المرتفع الذي يدفعه سكّان الجنوب وحزب الله نفسه، لا تبدو هذه الجبهة وكأنّها نجحت في التخفيف عن الجبهة الفلسطينية. فقرار حكومة نتنياهو توسيع عملياتها العسكرية إلى الضفّة الغربية يشير إلى «اطمئنانها» لفتح جبهة إضافية واعتبارها أن الخطر الشمالي بات مضبوطًا بقواعد محدودة. أمّا على صعيد المفاوضات، فبات واضحًا أنّ جبهة الإسناد لم تعد تشكّل تهديدًا جديًّا بتوسيع حدود الحرب وممارسة الضغط على نتنياهو، المتحمّس بالظاهر على الأقل لتوسيع كهذا. بكلام آخر، يمكن القول أن جبهة الإسناد تحوّلت إلى معركة صمود من دون أفق واضح.
الجبهة المنسيّة والجبهة المشتعلة
اشتعلت الجبهة الجنوبية في لحظة خفوت الجبهة السياسية الداخلية، ما قدّم لحزب الله فترة سماح سياسي خلال الأشهر الأولى للحرب. لكنّ الوضع انقلب بعد أشهر من القتال والتهجير والانتظار، حيث باتت الجبهة الجنوبية تتجه نحو حالة من الاشتباك من دون أفق في ظل اشتعال الجبهة الداخلية حول آثار الحرب وكلفتها. يمكن تخوين طرفَيْ هذا السجال، كما يجري حاليًا على ضفّتَيّ الإعلام اللبناني. لكنّ ذلك لن ينفي شرعية المخاوف من حرب أطلقها حزب الله من دون التشاور مع أحد من هذا الداخل اللبناني الذي يمرّ بأسوأ ظروفه الاقتصادية، وكذلك شرعية بذل كامل الجهود المتاحة للضغط من أجل التخفيف من الإبادة أو حتى حماية المناطق الحدودية من عنف حكومة إسرائيلية توسعية.
لا يمكن لحزب الله أن يتذمّر من هذا الداخل، لكونه مسؤولاً عن عزلة «المقاومة» السياسية جراء سياساته التسلطية في الداخل، بالإضافة إلى اشتراكه في قمع الثورات والمشاركة في إبادة الشعب السوري. ويستمرّ هذا النهج حتى اليوم. فبينما أظهر الحزب «عقلانية ميدانية» في الحرب الدائرة، فإنّ تعاطيه مع الأفرقاء الداخليين (بمن فيهم حلفاؤه) ما زال يسوده التعالي والتخوين والتهديد. وفي المقابل، لم يعد ممكناً لخصوم حزب الله تجاهل الخطر الفعلي الذي تشكّله إسرائيل، خاصة من خلال تحالفها الضمني مع بعض دول الخليج، ما بات يرسم معالم شرق أوسط مخيف.
لن ينتهي هذا المأزق مع انتهاء الحرب في الجنوب، بل سيستمر على الأرجح بالتفجّر ما دام هذا الاصطفاف قائمًا.