غاسلايت
في فيلم «غاسلايت» (1944)، يتلاعب الزوج (تشارلز بواييه) بوعي زوجته (إنغريد بيرغمان)، فيوهمها بأنها مضطربة نفسياً وبأنها تفقد تمييزها للواقع. يتعمّد غريغوري التلاعب بالبيئة المحيطة بزوجته باولا. فيقوم بشكل أساسي بتخفيف إضاءة مصابيح الغاز في المنزل متظاهراً أمامها بأنه لا يلاحظ هذا التغيّر، وبأنها تتوهّم ذلك، إلى جانب أفعال أخرى تثير الشكّ في سلامتها العقلية. يسعى الزوج المخادع إلى دفع باولا تدريجياً إلى الجنون، في محاولة منه لإخفاء أسرار جريمة قتل واستيلائه على ثروة كانت من حق زوجته.
بسبب هذا الفيلم الذي نالت بيرغمان عن دورها فيه جائزة الأوسكار لأفضل ممثلة عام 1944، بدأ يُستخدم شيئاً فشيئاً مصطلح «غاسلايتينغ» على نطاق واسع لوصف التلاعب النفسي الذي يجعل الشخص يشكّ في تصوّراته وواقعه. لكنّه ليس الفيلم الوحيد الذي يصوّر التلاعب النفسي الذي يمارسه الرجل على شريكة حياته لأهداف جرمية. فهناك، مثلًا، أفلام «ريبيكا» لألفريد هيتشكوك و«النوم مع العدو» لجوزيف روبن، وغيرها. وفي السينما المصرية لدينا أمثلة عديدة أيضاً، لعلّ أبرزها فيلم «الليلة الأخيرة» لكمال الشيخ.
تعود هذه الأعمال الفنّية الكلاسيكية، الجميلة والمزعجة، إلى الذاكرة دفعةً واحدة، حين تقرأ الأخبار المفجعة عن قضية جيزيل بيليكو التي ضجّت الأسبوع الماضي في الإعلام الفرنسي وتردّد صداها حول العالم. ليس دومينيك بوليكو– زوج جيزيل الذي كان يقنعها في الصباح التالي لجرائمه، بأن الاضطراب الذي يعتري ذاكرتها هو مجرّد تعب– أمراً طارئاً على سجل التلاعب النفسي الجرمي الذي يمارسه زوج بحق زوجته في تاريخ هذه المؤسّسة المبنية من جذورها على الاختلال في بنية القوة.
«ليس كل الرجال»
قبل أسبوع، بدأت المحاكمة العلنية لدومينيك بوليكو و50 رجلاً قاموا بين عامَيْ 2011 و2020 باغتصاب جيزيل بعد قيام زوجها بتخديرها من دون علمها بعقار يجعلها في وضع أشبه بالكوما. أنشأ دومينيك موقعاً إلكترونياً عام 2011 بعنوان «À son insu» (من دون علمها) يستقطب رجالاً من مختلف الأعمار والطبقات والمهن لاغتصاب زوجته النائمة، لإشباع رغبته الجنسية في مشاهدة رجالٍ آخرين يمارسون الجنس معها، بحسب التقارير الصحفية.
ركّزت الصحافة الفرنسية بجزء كبير من تغطيتها لوقائع المحاكمة العلنية التي تستمر حتى كانون الأول المقبل، على مهن المتّهمين الذين يمثّلون مختلف شرائح المجتمع الفرنسي. فبين هؤلاء نجد رجل الإطفاء والصحافي والكهربائي والمتقاعد والممرّض... كما تراوحت أعمارهم بين 26 و74 عاماً، في ما يصوّر المغتصب بأنّه قد يكون أيّ رجل وكلّ رجل. وفي ما تبيّن حتى الآن، ليس بين أيٍّ من هؤلاء، بمن فيهم الزوج، مَن يمكن إرجاع إقدامه على اغتصاب امرأة فاقدة للوعي (وبينهم من زار غرفة نوم جيزيل أكثر من مرّة ونقل لها أربعة أمراض جنسية) إلى خللٍ نفسي أو عطبٍ ما. كلّهم رجال «عاديّون» مخلصون لمهنهم ومحبّون لعائلاتهم. حتى دومينيك– بشهادات أبنائه– لطالما كان رجلاً صالحاً يحبّ زوجته وأبناءه وأحفاده.
«ليس كلّ الرجال» مغتصبين أو معنِّفين أو متلاعبين. هذه واحدة من الحجج التي تسلّح بها الرجال في السنوات الأخيرة عند كل فضيحة من هذا النوع، لتبرئة الذات وإظهار النساء بمظهر المتحامل على النوع بأسره. نعم بالطبع هناك رجال أخلاقيّون تمنعهم قيَمهم ومبادئهم من الإقدام على أفعالٍ شنيعة. لكنّ قضية جيزيل بيليكو تضع عبارة «ليس كلّ الرجال» موضع المساءلة مجدّداً. ولكن بأي معنى؟ بمعنى أنّ ما تبيّنه وقائع هذه القضية هو أن المغتصب ليس استثناءً أو مجرماً معزولاً نجده على هامش المجتمع. فعلُ الاغتصاب ليس مرتبطاً فقط بشخصٍ شرّير أو معتلّ نفسياً يعكّر صفاء بقية الرجال، بل هو فِعل قد يقترفه أي رجل عادي مهما كانت خلفيته الاجتماعية، لأنّ «ثقافة الاغتصاب» لا تزال سائدة على نطاق واسع حتى في المجتمعات التي تعتبر أنها قطعت شوطاً كبيراً في تحقيق العدالة والمساواة بين الرجال والنساء. ولأن أجساد النساء لا تزال مستباحة في إطار علاقات القوة المختلّة بين الجنسين.
استعادة «النظرة»
قبل أربعة أعوام اكتشفت جيزيل بيليكو عن طريق الصدفة جرائم زوجها (طليقها قريباً، حيث أن إجراءات الطلاق سارية) بعدما عثرت الشرطة على صور ومقاطع فيديو أخذها دومينيك لعمليات الاغتصاب التي دبّرها. جاء افتضاح أمره بعد شكوى قدّمتها امرأة أقدم دومينيك على تصويرها من دون علمها داخل متجر. منذ ذلك الحين، بدأت رحلة جيزيل وأبنائها إلى الجحيم بحسب وصف إبنة بيليكو التي اتضح أيضاً أن والدها خصّها بملف صور بعنوان «صور عارية لابنتي». لم يكتفِ دومينيك بعمليات الاغتصاب التي ناهزت المئة، بل صوّرها ليعود إليها ويُشبع شهوة الفرجة لديه مرةً بعد أخرى.
يتكثّف في طبقات القبح التي تتضمّنها هذه القضية، بشكل أكثر راديكالية ربما من أي مثال آخر، تشييء المرأة ونزع إنسانيتها إرضاءً لشهوة الرجل. جيزيل مخدّرة، في ما يشبه الغيبوبة، ممدّدة على سرير الزوجيّة، فوقها رجل غريب (نيكروفيلي؟) جاء به زوجها ليمتّع نفسه بالمشاهدة الحيّة والمشاهدة المسجّلة. هي في هذه اللحظة أقرب إلى جثّة، وعاء، شيء ما ملقى بغير اهتمام على الفراش، يستبيحه رجل معتدٍ ومن خلفه عيون الزوج.
بشكلٍ عام، وفي مجالات شتّى، تخاطر الفرجة دوماً في جعل الآخر شيئاً في حقل الرائي. ولطالما كان جسد المرأة المثال الأفضل لكيفية تقليص الإنسان إلى منظر ستاتيكي يجعل المرأة موضوعاً لنظرة الرجل كجزء من كونها أداةً لرغبته. يسري هذا الفصل الصارم بين الرائي والمرئي تاريخياً على مستوى الجنسَيْن أنّى أدرْنا وجهنا: في الفنّ والسينما والإعلام وصناعة البورنو، ازدهر في السنوات الأخيرة نوع الـPOV حيث يظهر جسد المرأة فقط خلال العلاقة الجنسية في المقطع المصوّر، فيكون المشاهد في موقع الرجل ويرى ما يراه الأخير فقط، من دون الحاجة إلى رؤية جسد الرجل. وصولاً إلى ما بات يُسمّى بثقافة إنستغرام وتيكتوك. فبرغم كل التقدّم الذي أحرزته النساء لاستعادة ذاتها في مجتمع الفرجة المتفاقم، فإنّها لا تزال في أماكن كثيرة أسيرةَ النظرة الذكورية (male gaze).
في طلب جيزيل بيليكو أن تكون محاكمتُها علنيةً شيءٌ من سعيها إلى استعادة ذاتيّتها التي سُلبت منها طوال عقدٍ كانت فيه موضوعَ النظر وأداةً لإرادة ورغبات شخص/أشخاص آخرين. في إصرارها على حضور كاميرات الإعلام قاعة المحكمة وتصوير المتّهمين الذين عمد الكثير منهم إلى إخفاء وجوههم بكمامات الوجه حيناً وبأيديهم في أحيان أخرى، تقلب الطاولة على النظرة التي انتهكتها وغذّت انتهاكها لسنوات طويلة. تجعل مغتصبيها أشياءَ في حقل المشاهدة، لكنّ المشاهِد هذه المرّة هو العالم بأسرِه. تنتزع سطوة «النظرة» من عينَيْ زوجها وتشاركها مع العالم كله، فتصبح شهوةُ الفرجة التي دفعته إلى الإجرام المنهجيّ بحق زوجته، شهوةً للعالم كله يكون هو موضوعها هذه المرّة.
منذ بدء المحاكمة، انتشرت على الإنترنت لوائح تعرض أسماء ووجوه المتهمين الذين يُحتجز منهم حتى الآن عشرون شخصاً مع الزوج. فتحت جيزيل عينيها أخيراً على اتّساعهما، وفتحت معها عيوننا جميعاً لننظر مليّاً إلى الجناة ونشاهد (شيئاً من) العدالة يتحقق أخيراً. لا نعلم مطلقاً أي أحكام ستكون كافية بالنسبة لامرأة قالت في الأيام الأولى من المحاكمة: من الخارج أنا صلبة، لكنني في الداخل حقلٌ من الخراب.