تعليق سعر الصرف
علي هاشم

من ضحايا التثبيت إلى ضحايا التعويم

26 كانون الثاني 2021

كان كافياً أن يُثار على لسان حاكم مصرف لبنان موضوع تعويم سعر الصرف، لتنطلق موجة من التعليقات المتوجّسة من مستقبل البلاد بعد الدخول في مرحلة سعر الصرف العائم.

مع العلم أنّ سعر الصرف الفعلي عائم أساساً في السوق السوداء، فيما سعر الصرف الثابت ليس سوى ذاك المعمول به لاستيراد السلع الأساسيّة، والذي كان من المعروف – قبل تصريح الحاكم الأخير – أن البلاد باتت قاب قوسين أو أدنى من التخلّي عنه بعد استنفاذ الإحتياطات القابلة للاستخدام في مصرف لبنان.

بإختصار، لم يكن الإهتمام – أو بالأحرى التوجّس المفرط – الذي أثاره تصريح الحاكم سوى نتيجة حقبة طويلة من تقديس ثبات سعر الصرف في الإعلام وعلى لسان الحاكم نفسه. وهي قدسيّة سمحت بالتفريط بأثمن ما تملك البلاد بحجّة الحفاظ على سياسة سعر الصرف الثابت، فيما كانت هذه السياسة تعمل في الواقع لخدمة مصالح راسخة في النظام المالي اللبناني.


قبل العام 1990، شهدت الليرة إنخفاضات متتالية وسريعة في قيمتها مقابل الدولار الأميركي، نتيجة التحويلات المتزايدة إلى الخارج، وتسبّب ذلك بقدر كبير من التضخّم والركود نتيجة تراجع القدرة الشرائيّة للمواطنين. لكنّ تلك الإنهيارات لم تؤدِّ في أي مرّة من المرّات إلى إنهيار شامل في النظام المالي أو المصرفي كالذي شهدناه اليوم، ولم يخسر اللبنانيون في تلك المرحلة ودائعهم، كما لم تخسر المصارف قدرتها على إقراض الدولة عند الحاجة. وفي الواقع، وبعد قدر معتبر من التصحيح في الأجور بعد كل إنهيار قاسٍ في سعر الصرف، كانت البلاد قادرة على العودة لتسجيل معدلات معتبرة من النمو الإقتصادي في العام التالي، دون أي خسائر في القطاع المالي ودون الحاجة لتوزيع الخسائر، وبالتأكيد دون الحاجة لرزم دعم صندوق النقد وغيره من الجهات المانحة.

لم ترتبط مناعة النظام المالي في تلك المرحلة بعبقريّة المصرفيين أو قدرتهم على إدارة الأزمة بدهاء خارق، لا بل يمكن القول أن معظم هؤلاء تورّطوا أو حاولوا التورّط في مرحلة ما بمغامرات ومضاربات بعيدة عن العمل المصرفي الرشيد في السوق السوداء. لكن لم يسعَ مصرف لبنان في تلك المرحلة إلى إمتصاص دولارات المودعين، ولا إلى توريطها أو إنفاقها في الدفاع عن سعر الصرف، بل حتّى أنّ توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان بالعملة الأجنبيّة كانت شبه معدومة، فيما كانت المصارف تضع أكثر من 89 ٪ من دولارات المودعين كسيولة جاهزة في حسابات مراسليها الأجانب.


بعد دخول البلاد في مرحلة ما بعد الحرب الأهليّة، كان من السهل إقناع الجميع بجنّة سعر الصرف الثابت، خصوصاً أن «تروما» فقدان الأجور والمدخرات لقيمتها في الثمانينات كانت ماثلة في الأذهان. لكنّ سياسة تثبيت سعر الصرف سرعان ما تحوّلت بالنسبة إلى الإقتصاد المحلّي إلى ما يشبه الغاز السام الذي يقتل الضحيّة بصمت دون أن يصدر رائحة أو لون يدلان عليه. فسعر الصرف المرتفع والمصطنع، أسهم طوال تلك السنوات في ضرب تنافسيّة الإنتاج اللبنانيّة مقابل الإنتاج الأجنبي، في السوق المحليّة وفي أسواق الخارج على حدٍّ سواء. وبذلك، كانت هذه السياسة النقديّة تكمّل السياسات الماليّة والحكوميّة الأخرى، التي دفعت البلاد بإتجاه النموذج الريعي الذي قام في مرحلة منذ مرحلة ما بعد الحرب الأهليّة وحتّى حصول الإنهيار الحالي.

لكنّ الضحيّة الأكبر لسياسة الدفاع عن سعر الصرف، كان النظام المصرفي نفسه. فبخلاف مرحلة الثمانينات، تورّط مصرف لبنان منذ التسعينات في عمليات الإنفاق من الإحتياطات الموجودة لديه، أي من أموال المودعين التي وظفتها المصارف لديه، لتأمين الدولارات المطلوبة للحفاظ على سعر الصرف الثابت وتمويل التحويلات للخارج للإستيراد أو غيره.

سنة 2015، وقبل أربع سنوات من حصول الإنهيار الكبير في المصارف، كان صافي احتياط النقد الأجنبي لدى مصرف لبنان، أي الفارق بين إلتزاماته للمصارف والسيولة المتبقية لديه، يسجّل عجزاً بحدود الـ1.9 مليار دولار. بعد تنامي عجز ميزان المدفوعات، وتورّط مصرف لبنان بإمتصاص سيولة المصارف بالعملات الأجنبيّة من خلال الهندسات الماليّة، وإنفاقه لهذه السيولة في عمليات الدفاع عن سعر الصرف وتمويل التحولات إلى الخارج، تنامى العجز الذي سجله صافي احتياط النقد الأجنبي إلى حدود الـ55.5 مليار دولار سنة 2019، وهو ما تسبب لاحقاً بأزمة السيولة التي أدت إلى إفلاس القطاع المصرفي.


بالتأكيد، ستمر البلاد بمخاض عسير في ما يخص توحيد أسعار الصرف ومن ثم تعويم السعر الموحد، خصوصاً وأنّ ذلك سيتم من خلال وصفات صندوق النقد الشهيرة بقسوتها، سواء من خلال الرفع السريع للدعم، أو من خلال تجفيف الأسواق من السيولة. لكنّ الأهمّ هو أن نتذكّر أننا وقبل أن نكون ضحايا هذا المخاض اليوم، كنا طوال الحقبة الماضية ضحايا سياسة تثبيت سعر الصرف التي كبّدت البلاد واقتصادها ونظامها المالي الثمن الغالي.

هذه السياسة، وإن حملت لواء الدفاع عن قدرة اللبنانيين الشرائيّة، كانت تخدم عمليّاً مصالح عميقة في النظام المالي، سواء من ناحية قيمة توظيفات المصارف في الدين العام المقوّم بأغلبه بالليرة، أو من ناحية حجم الأرباح التي نتجت عن الهندسات الماليّة، وما تلاها من تهريب لهذه الأرباح إلى الخارج بعد تحويلها من الليرة إلى الدولار بالسعر الرسمي قبل الإنهيار!

آخر الأخبار

«لا مجاعة في غزّة»
جعجع: الأمن الذاتي بحجّة مكافحة النزوح السوري
اجتياح رفح 
الإفراج عن الأكاديمية نادرة شلهوب كيفوركيان
خوفاً من مذكّرة اعتقال دولية
هكذا يعذّب الاحتلال الدكتور إياد شقّورة