كيف تؤثّر العادات الغذائية على السياسة، وبالتالي ما هي آثار الأزمة الغذائية على المجتمع اللبناني؟
الجواب على هذه الأسئلة يطال أبعد من المستوى الغذائي الكارثي، كما يكتب سامر فرنجية، لينذر بتحوّل في البنى الاجتماعية والاقتصادية، ما يتطلّب تأقلمًا لممارساتنا السياسية ولغتنا النظرية.
الخطاب: الأكل كهويّة
صور المجاعة
- يواجه 4 من كل 10 أطفال مقيمين في لبنان حالة من انعدام الأمن الغذائي، حسب المنظمة العالمية Save the Children.
- في كلّ أسرة من أصل أربع أسر شملتها دراسة Human Rights Watch، هناك شخص بالغ اضطر أن يفوّت وجبة طعام بسبب الفقر.
- 46 ٪ من اللبنانيين جائعون بحسب برنامج الأغذية العالمي للأمم المتّحدة.
- بحسب عنوان مقال صدر مؤخرًا في مجلة الايكونوميست: في لبنان، الأهل يتخلّون عن أطفالهم في دور الأيتام.
يمكن تكرار الدراسات والأرقام والمقالات، لكنّ الخلاصة واحدة. بعد مئة سنة على المجاعة المؤسِّسة للكيان اللبناني، يعود شبح الجوع ليحوم فوق البلاد، مؤكّدًا انتهاء صلاحية الكيان الذي بدأ بعدما الناس أكلت بعضها، كما وصفت كتب التاريخ المجاعة.
ربّما لا نحتاج إلى صورة المجاعة لكي نلتقط حجم المآسي الاجتماعية الحالية، كما أنّنا لا نحتاج إلى صور الحرب الأهلية لكي نستشعر معالم انهيارنا الحالي. فالعودة إلى الماضي، خاصة من خلال صوَر معلّبة عن هذا الماضي، قد تكون عائقًا لفهم الحاضر، خاصة عندما يكون هذا الحاضر على عتبة تحوّل ضخم. وما تشير إليه الإحصاءات السابقة، هو أنّنا على عتبة تحوّل كهذا، يبدأ بسوء التغذية وآثارها الكارثية، لكنّه يمتدّ إلى أبعد من ذلك، ليطال عملية إنتاج وإعادة إنتاج الحياة في لبنان.
«مطبخنا الوطني»
وين ما رحنا بالعالم منسمع أن الطبخ اللبناني، الأكلة اللبنانية، المطبخ اللبناني عندو مميزات ودائمًا بيجي بالأوائل يلي بحبوهن الناس. هكذا يبدأ محاور برنامج «لبنان بقصة» حديثه مع المؤرخ.
يجيبه المؤرخ: بالأكل اللبناني وبالأكل الشرقي، منقول «في إلو نفس»، هو من الطعام الوحيد بالعالم منعطي روح، لأنو منحط روحنا فيه.
يحاول برنامج «لبنان بقصة»، على شاشة الأل.بي.سي.آي، إعادة سرد «الرواية اللبنانية» في لحظة تصدّعها. يأتي هذا البرنامج في سياق عدد من التجارب الأخرى، الإعلامية أو الفنية، التي تحاول سرد هذه الرواية وتحوّلاتها في القرن العشرين. من بينها، مثلًا، برنامج «صارو ميّة» الذي أطلقته محطّة الأم. تي. في في ذكرى مئوية لبنان الكبير. لكنّ ما بدأ كاحتفاء بهذه «القصة»، سرعان ما ظهر، على خلفية الانهيار الراهن، كنوع من النوستالجيا لـ«حقبة ذهبية» أو رثاء ضمني لهذا اللبنان وروايته. فيأتي الاحتفاء بالمطبخ اللبناني، مثلًا، بعد أسابيع على صدور دراسات المنظمات الدوليّة عن انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية والجوع، ليتحوّل الاحتفاء إلى رثاء لمطبخ لم يعد موجوداً إلّا على شاشات التلفزيون، أو في دول الاغتراب، آخر معاقل هذه الرواية. فيتمّ تهريب وصفات «مطبخنا» الوطني إلى الخارج من خلال رسائل صوتية لـ«تيتة» لبنانية لحماية تلك الوصفات وحفظها من حالة الانحلال المعمّمة.
ربّما كان ذلك رثاءً، وربّما احتفاءً، لا يهمّ. المهمّ هو الموقع المركزي للمطبخ اللبناني في رواية هذا البلد. فمن الدعايات الموجّهة إلى المغتربين، إلى حملات وزارة السياحة، وصولًا إلى مسابقات «الأكبر»، أي أكبر صحن حمص أو سندويش شاورما، يظهر الأكل كمكوّن أساسي، إن لم يكن المكوّن الأخير، للأيديولوجية الوطنية. يشبه المطبخ اللبناني أهل لبنان، حيوي ومتجدد، ويبدو بطزاجة مكوناته وتنوع الألوان والروائح وكأنه احتفال يومي متجدد بالحياة، هكذا تشجّع صحافية على «سياحة الطعام» في لبنان، في مقال نُشِر في آب 2019، أي قبل بضعة أشهر من البداية الرسمية للانهيار. فلبناء صورةٍ لهذا البلد تتماشى مع دوره كما رآه منظّرو الكيان، لعب «المطبخ اللبناني»، أي الرواية التاريخية عن الأكل ومعانيه، دورًا مهمًا، حيث بات تجسيدًا للشخصية اللبنانية، في انفتاحها وحسّها الشهير بالضيافة وتعلّقها بالعائلة، ورابطًا عاطفياً مع الاغتراب المكوّن للهوية اللبنانية، وملعبًا لطيفًا لصراعاتنا الأهلية.
سؤال الخطاب
عن ضرورة إعادة صياغة رواية جديدة عن هذه البلاد وتاريخها، تنطلق من حاضرنا المأزوم.لكنّ هذه الرواية باتت جسدًا مهترئًا، لا تحتمل التفكيك. لا داعي لنقد هذه الصورة، فمجرّد تزامن أيديولوجيا الطفرة والمازة والضيافة مع معاناة 46٪ من سكّان البلد من الجوع، كافٍ لتفريغ تلك الأيديولوجيا من أيّ حمولة سياسية. فبعد لحظة ذروتها في منتصف القرن الفائت، ومحاولة إعادة إحياء جوانب منها مع الحريرية بعد الحرب ثمّ مع لحظة 14 آذار، لن يبقى من هذه الرواية اللبنانية اليوم، إلّا بعض برامج التلفزيون… ثمّ حاولت «ثورة»، من دون أن تدري، أن تنقذ هذه الرواية من خلال تطعيمها ببعض الإصلاحات المدنية والتحاليل الاقتصادية. لا داعي لتفكيك تلك الرواية لأنّه لم يعد يربطنا بها «علاقة سلطة» بل علاقة نوستالجيا، نوستالجيا لزمن كان للسلطة فيه رواية يمكن تفكيكها. لكنّ اهتراء هذه الرواية يطرح علينا تحدّياً، خاصّةً بعد فشل آخر محاولة لإنقاذها من خلال إصلاحها، وهو عن ضرورة إعادة صياغة رواية جديدة عن هذه البلاد وتاريخها، تنطلق من حاضرنا المأزوم. «فشل» الثورة، بهذا المعنى، هو المدخل الضروري لإعادة التأريخ الضرورية.
فاصل
أزمة مفهوم الأزمة
كثُر الكلام عن «الأزمة» في الآونة الأخيرة، أزمة كهرباء وأزمة معيشية وأزمة صحة، لكن أيضًا أزمة رئاسية وأزمة مؤسسات وأزمة نظام. لكنّ طفرة الكلام عن «الأزمة» باتت عائقًا لفهم واقعنا المتقلّب، كما أصبحت حاجزًا لالتقاط مفهوم «الأزمة» بحد ذاتها.
المفهوم السائد للأزمة
يسيطر تعريفان على المفهوم السائد للأزمة بالإعلام.
الأوّل، المرتبط بالحقل السياسي، هو الأزمة كجمود أو فراغ أو شلل، أي الأزمة كانعدام الحركة على الصعيد السياسي، أي على صعيد الفعالية الإدارية. الأزمة، بهذا المعنى، تتجلّى بعدم قدرة السلطات المعنية إدارة حالة البلاد، جراء شللها المؤسساتي والسياسي. وقبل أن تستعيد تلك السلطات فعاليتها، سيبقى المجتمع فاقداً لأي إدارة، متروكاً لوحده لكي يواجه مآسيه.
أما المفهوم الثاني، والمرتبط بالمواضيع الاجتماعية والاقتصادية، فهو كمّي، ويمكن تلخيصه بعبارات «الانخفاض» و«الانقطاع» و«السقوط»، أي الأزمة كحالة معمّمة من «الندرة»: انقطاع الكهرباء والبنزين والمياه والطحين... انخفاض بالقيمة الشرائية والتقديمات الاجتماعية ومعدلات النمو... سقوط بسعر الصرف والمعاشات...
العلاقة بين المقاربتين سببيّة، حسب هذا التعريف. فـ«شلل» السلطات فتح المجال أمام «السقوط الحر» في المجتمع. من هنا، تظهر الغاية الأيديولوجية لهذه النظرية، وهي إعادة فرض هيمنة السلطة السياسة على المجتمع، من خلال جعل أي خروج أو حتى فهم لما يحدث مشروطاً بعودة المؤسسات إلى فعاليتها، وهي المؤسسات والسلطات نفسها المسؤولة أصلًا عن الأزمة. «وينيّي الدولة؟» قد يكون من أكثر الشعارات تعميقًا للأزمة اليوم.
تحرير الأزمة من الفهم السائد لها
بدل مفهومَي «الشلل» و«الانخفاض»، علينا ربّما مقاربة الأزمة من زوايا مختلفة.
فالأزمة ليست «أزمة حكم»، هي أداة للحكم والإدارة، تستغلها السلطات لتأديب مجتمع أو لتمرير سياسات غير شعبية من دون مقاومة. فالقرار الحالي لاستدامة الأزمة ليس خطأ ارتكبته القوى السياسية أو نتيجة لفراغ دستوري أو شلل مؤسستي. هو قرار واعٍ، اتّخذته السلطات لكي تعيد تركيب المجتمع من دون مقاومة تذكر، لمحاولة إعادة إنتاج سطوتها بظروف جديدة.
كما أنّ الأزمة ليست انخفاضاً أو ندرةً (إلّا للطبقات الفقيرة)، بل إعادة تقييم للقطاعات والأصول، تحتاج إليه الاقتصادات الرأسمالية دوريًا لإعادة إطلاق عملية التراكم، مهما كانت أليمة. في هذه اللحظات، تنخفض قيمة الأصول وتكلفة العمل، ما يعيد إطلاق الأرباح وبالتالي التراكم. هنا أيضًا، لم تكن أزمتنا خطأ، بل حاجة اقتصادية، بعدما وصل الاقتصاد اللبناني إلى حائط مسدود.
عندما نبدأ بالنظر إلى الأزمة كأداة حكم وحاجة اقتصادية لنموذجنا من الرأسمالية، نبدأ بالابتعاد عن المفهوم السائد، لتبدو الأزمة، لا ككارثة طبيعية سقطت علينا جميعًا، شعبًا وسلطة، بل كسيرورة اقتصادية واجتماعية، يراد منها إعادة فرض سطوة السلطات على موارد المجتمع وإدارته بأقلّ كلفة ممكنة. الأزمة فرصة للسلطات، ألَمْ يطالبنا القيّمون على الوضع بتحويل الانفجار إلى فرصة؟
الممارسة: برّاد العائلة
تاريخيّة «مطبخنا الوطني»
تناقضات الأيديولوجية، مهما كانت حادّة، لا تحلّ على أرضية الخطاب. فـ«الرواية اللبنانية»، مهما كانت ركيكة، هي قبل كل شيء ممارسات وبنى اجتماعية. و«المطبخ اللبناني» هو خير دليل على هذا. فهو خطاب ومعانٍ تضاف للطعام، لكي يصبح حاملاً لأكثر من وظيفته الأوليّة، أي الغذاء. كما هي ممارسات وطقوس وبنى اجتماعية نمت حول كيفية استهلاك هذا الطعام. قد يكون الطعام الرابط الأساسي بين بنيتنا العاطفية وتاريخنا، حيث نتعلّم، منذ الصغر، كيف نربط بين طعمات معينة وأحاسيس من الألفة والراحة، أو كيف نبني علاقات وروابط اجتماعية حول طريقة معينة لتناول الطعام، أو كيف ننظّم أيامنا حول عادات تناول الأكل، أو كيف نربط بين مناسبات دينية واجتماعية وطقوس أكل معينة، أو كيف نعرّف عن أنفسنا من خلال مطبخنا.
ما نواجهه اليوم ليس مجرّد انخفاض بالموارد أو استبدال للأصناف وانقطاع لبعض المأكولات، بل أكثر من ذلك، بداية حالة من التحوّل الاجتماعي الذي سيطال مفاهيم مؤسّسة لحياتنا الاجتماعية ونظرتنا لأنفسنافي كتابه «الحلاوة والسلطة: مكانة السكر في التاريخ الحديث»، يخلص عالم الأنثروبولوجيا سيدني مينتز إلى أن التحولات في النظام الغذائي ترافقت تاريخيًا مع «تغيرات عميقة في نظرة الشعوب لذاتها وفي مفهومها لفضائل التقليد والتغيير وفي نسيج حياتهم اليومية الاجتماعية». بهذا المعنى، ما نواجهه اليوم ليس مجرّد انخفاض بالموارد أو استبدال للأصناف وانقطاع لبعض المأكولات، بل أكثر من ذلك، بداية حالة من التحوّل الاجتماعي الذي سيطال مفاهيم مؤسّسة لحياتنا الاجتماعية ونظرتنا لأنفسنا.
فما مِن مطبخ أصيل، في لبنان أو خارجه، وما التراث الغذائي إلا نتيجة تواريخ طويلة من التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية، بعضها قسريّ. فلا يمكن أن نفهم تاريخ الكولونيالية، مثلًا، من دون تاريخ صناعة وتجارة مواد مثل السكّر والبهارات والقهوة وغيرها من المواد التي باتت تشكّل جزءًا لا يتجزّأ من الذوق في الأكل، وهذا ليس فقط في المجتمعات الكولونيالية، ولكن أيضًا في مستعمراتهم، التي تلقّت هذه المكوّنات وأدخلتها بدورها بمطبخها «الوطني». كما لا يمكن فهم التحوّلات في المطبخ من دون حركة انتقال الشعوب، هجرةً أو لجوءًا، والتي جلبت معها نكهات باتت اليوم «وطنية» في مطبخ البلد المستقبِل. أنقذ اللجوء السوري إلى ألمانيا المطبخ الألماني من ملله الذوقي، كما فعلت الهجرة الآسيوية من قبل مع المطبخ الانجليزي. المطابخ الوطنية لا تتغيّر فقط في لحظات التحوّلات الاجتماعية العميقة، هي تتحوّل أيضًا يوميًا حسب سياسات شركات إنتاج الأكل، أو سياسات الدول فيما يخصّ التصدير والاستيراد، أو سياسات الترويج. يمكن هنا التكلّم عن «حداثة الحواس»، أي أنّ هذه التحوّل التاريخي، ليس قيميّاً على صعيد الأفكار، كما يحلو لبعض منظري الحداثة عندنا تلخيص هذه السيرورة، بل يدخل أيضًا بالتحوّل على صعيد النظام الغذائي الذي ينتقل من نظام قائم على مركزية منتوج نشاء واحد مع بعض المواد الإضافية من حوله، إلى آخر متنوع المصادر وتأخذ فيه المواد الحيوانية حيزًا أكبر.
ربّما لا نحتاج إلى كل هذا لكي ننظر إلى «مطبخنا الوطني» أيضًا كمنتوج تاريخي، لا يعبّر عن أصالة ذوقية، بل عن التحوّلات التاريخية التي مرّت بها بلادنا منذ قرن أو أكثر. فمطبخنا، مكمن هويتنا اللبنانية، هو نتاج الاحتلالات والإمبراطوريات، وتحرّكات الشعوب، القسريّة عادةً، والكولونيالية وفرضها للبضائع والموارد. مطبخنا شاهد على كل هذا. لكنّه أيضًا نتيجة لتحوّلات اجتماعية واقتصادية، غيّرت بطقوس المطبخ تلبيةً لتحوّل البنية الاقتصادية. هو، بهذا المعنى، نتيجة رأسماليّتنا الخاصّة التي عاندت الزراعة لصالح قطاعات أخرى، ما حوّل علاقتنا «بتراثنا» الطبيعي. وهو أيضًا نتيجة تحولات تكنولوجية، من دخول البراد إلى مجتمعاتنا وتحوّله إلى المكوّن الأساسي في أي مطبخ إلى التطوّر في تقنيات الطبخ والحفظ التي غيّرت مفهومنا للطبخ وللطقوس التي يمكن أن تبنى من حوله. بالعودة إلى الهامش السابق، غالبًا ما يتمّ مقاربة الحداثة من خلال تحوّلات تكنولوجية كدخول الراديو أو التلفزيون إلى مجتمعاتنا، والتي تشير إلى تركيزنا على المستوى الفكري لهذه السيرورة، وقليلاً ما نظرنا إلى البراد وما عناه من تحوّلات، ليس فقط في أكلنا بل في عاداتنا وتركيب مجتمعاتنا وذوقنا في الأكل وحساسيتنا تجاه معاني الأكل.
بلا برّاد، ما في عيلة
الإشارة إلى تاريخية مطبخنا وأُسُسه المادية هي محاولة لبدء استكشاف ما تحوّله الأزمة في مجتمعنا، بعيدًا عن نظرية الانقطاع والانخفاض السائدة.
لنقف للحظة حول البرّاد وما أتاحته دمقرطة قدرة الحفظ والتخزين من تحوّلات اجتماعية. فدخول البرّاد إلى كل منزل سمح بفصل العلاقة بين الإنتاج والاستهلاك، ما أتاح التجارة بعدد من المواد، كالمأكولات والمشتقّات الحيوانية، والتي لا مكان لها في المنازل خارج تقنيات البراد. فبات البرّاد الشرط التقني لتطور قطاع اقتصادي بأكمله، أي قطاع استهلاك الأكل المبني حول مؤسسة السوبرماركت، كنيسة الرأسمالية الشعبية.
ساهم البرّاد، مع تحوّلات تقنية أخرى، بقطع علاقة الأكل مع إيقاعه الطبيعي. فبات من الممكن استهلاك كافة المواد خلال السنة، لتزول فكرة الأكل الموسمي، وذلك قبل أن تعود من خلال سياسات ترويج المطاعم البديلة واستغلالها «الناعم» لمنتجي تلك المواد.
على صعيد آخر، فتح البرّاد إمكانيّةً أمام حفظ المأكولات والسيطرة على زمن إنتاجها واستهلاكها في المنازل، ما ساهم، مع تحوّلات تقنية واجتماعية أخرى، إلى تحرير حياة منتجات الطعام من سجن المطبخ إلى سجن السوق. وحول البراد وما أتاحه من سيطرة على جدول الطبخ والأكل، تطوّرت عادات «عائلية» أسّست لمفهوم مختلِف للعائلة، من الأسر الممتدّة اجتماعيًا والمتداخلة إلى العائلات «الحديثة»، والمكوّنة من أهل وأطفالهم، المقيمين في شقّة في المدينة، يتوسّطها برّاد وتلفزيون.
لنقف للحظة حول هذا البرّاد، ولنتخيّل ما يعني بداية خروجه من مجتمعنا لاستحالة تأمين الكهرباء. فبالعودة إلى حي الطمليس، يروي أحد سكّانه عن عائلات لم تعد تأكل سوية لاختفاء البراد من المنزل. علينا ربّما التوقّف عند هذه الجملة، عن الترابط بين المادة، أي الكهرباء، والتكنولوجيا، أي البراد، والعائلة، هذه البنيّة المقدّسة في مجتمعنا. العائلة لم تعد نفسها في هذا الحي، لأنّ البراد اختفى. فالعائلة أيضًا بنية تاريخية، معانيها تتحوّل مع الزمن، كما حدودها، القانونية والعاطفية، وطقوسها وعاداتها. قد تكون العائلة من أكثر البنى حميمية، لكنّها تتغيّر منذ عقود، تأقلمًا مع التحوّلات التاريخية، ومع الانهيار في الآونة الأخيرة. ربّما يصعب على البعض التخيّل أنّ العائلة تتحوّل، وهي مكمن الثبات، لكن لنعُد إلى عنوان مقال «الإيكونوميست»: في لبنان، الأهل يتخلّون عن أطفالهم في دور الأيتام.
سؤال الممارسة
كيف نبدأ بفهم مجتمعنا الجديد، خارج لغتنا البائدة، لالتقاط معالمه المتحوّلة؟إذا ابتعدنا عن الخطاب للحظة، وعن المفهوم الكمّيّ السائد للأزمة، نلاحظ أنّ التحوّلات في بنى مجتمعنا قد بدأت، على مستوى الممارسات التي لا إسم لها بعد. الممارسات تتحوّل قبل الخطاب، فنستعمل الكلمات ذاتها لمحاولة التقاط ممارسات جديدة. وفي حالات التحوّلات العميقة، اللغة تخذلنا، وكأنّها باتت منتهية الصلاحية. وهنا السؤال الذي نواجهه: كيف نبدأ بفهم مجتمعنا الجديد، خارج لغتنا البائدة، لالتقاط معالمه المتحوّلة؟ وإذا كان «فشل» الثورة هو شرط السؤال الأول، فإتمام مراسم رثاء مجتمعنا السابق هو شرط السؤال الثاني.
فاصل
طبقاتٌ وحَيَواتٌ
هناك ربّما شيء من المبالغة، أو الصرامة النظرية، في هذا الربط بين البراد وعلاقتنا بعائلتنا. فالكهرباء ستعود، إن لم يكن هذه السنة، ففي السنوات القادمة، لتعود الأمور إلى ما كانت عليه. لكنّ الكهرباء لن تعود للجميع، كما أنّ موتورات الحيّ ليست متاحة للجميع. فما هو أصعب من التقاط التحوّلات الخفية التي تدخل على بنى اجتماعية، كالعائلة، هو النظر لمجتمعنا خارج حدودنا الطبقية. الكهرباء ستعود لمعظم كتّاب وقرّاء هذا الموقع، لكنّها لن تعود لشرائح كبيرة من المقيمين في هذه البلاد. وهنا يكمن ربّما أحد الجوانب الأساسيّة للأزمة الحاليّة، والذي تخفيه النظرة الكمّية للأزمة، والتي تخلص بأن «اللبنانيين» كشعب يعانون من انخفاض عام في مستويات الحياة.
فالأزمة الحالية، أوّلًا، لا تطال الجميع بنفس الطريقة كما يراد تصويرها عند استعمال «اللبنانيين» أو الـ«نا» الجامعة. فهي تقع في صلب الفروقات الاجتماعية. ما من دليل على سطوة هذه النظرة الجامعة والماحية للفروقات الطبقية إلّا سؤال بعض المغتربين العائدين إلى وطنهم، والمتوقعين للمجاعة، عن سبب الزحمة في بعض المطاعم. فيستنتجون أن «اللبنانيين» يحبون الحياة مهما عصفت بهم الأزمات.
وثانيًا، وهذا الأهم، الأزمة لا تعمّق الفروقات الاقتصادية بين الطبقات فحسب، هي توسّع معنى هذه الفروقات، لكي تطال جوانب كانت بالماضي إمّا خارج مجال هذه الفروقات، لوجود بعض «المؤسسات التعويضية»، كالمؤسسات التربوية العامة ووزارة الصحّة وكهرباء لبنان وغيرها من مؤسسات أمّنت حدًا أدنى من الحياة في مجتمعنا. فالمجتمع اليوم ليس مقسوماً حسب قدرة المداخيل فحسب، بل بات الانقسام يطال إمكانية الحياة. فنحن في صدد:
- انقسام المجتمع كهربائيًا، بين من تشكّل الطاقة الكهربائية قاعدة في حياته، والفئات التي خرجت من هذا العالم، مع ما يعنيه ذلك من تحوّلات اجتماعية واقتصادية عميقة.
- انقسام المجتمع بيولوجيًا، بين من لا يزال يستطيع تأمين الغذاء والطبابة، ومن بات خارج الطب الحديث ويكافح لتأمين الحد الأدنى من الغذاء، مع ما يعنيه ذلك من انقسام معدلات الحياة طبقيًا، أو بين الحياة والموت.
- انقسام علاقة المجتمع بالخارج، بين من يسافر من المطار ومن يخوض تجربة قوارب الموت، مع ما يعني هذا من علاقة مختلفة مع هذا الخارج، المكوّن للاقتصاد اللبناني.
- انقسام علاقة المجتمع مع المياه، بين من يستحمّ بها ومن ينظر لها كمصدر محتمل للكوليرا.
- انقسام المجتمع تربويًا، بين القلّة في المؤسسات الخاصة والأكثرية العالقة في المؤسسات الرسمية المتهاوية أو خارج النظام التربوي.
- انقسام المجتمع بين من يفرح بطفله الجديد ومن يبحث عن دار أيتام لكي يطعمه.
يمكن تعداد أمثلة أخرى، لكنّ الخلاصة واحدة. الفروقات بين الطبقات لم تعد مجرّد فروقات «اقتصادية»، ولم تعد تؤسس لمجتمع مقسوم طبقيًا، بل ربّما لمجتمعَيْن قد يختلفان عن بعضهما بعضاً على كامل أصعدة الحياة والموت. هذا ما تخفيه الـ«نا» الجامعة، هذه الـ«نا» التي وُضعت تاريخيًا في وجه الطوائف، والتي تنهار اليوم جراء تعميق الفروقات الطبقية.
البنية: الأكل كمكوِّن لعملية إعادة إنتاج الحياة
أزمة في إعادة إنتاج الحياة
لا نحبّ الطبقات لأنّها تخربط نظرتنا «الجامعة» لمجتمعنا، وهي نظرة، كالرواية اللبنانية السائدة، ليست من اختصاص النظام ومصالحه الطبقية فحسب، بل عمّقتها أيضاً «الثورة» في نظرتها الجامعة عن شعب ثائر، والتغاضي عن انتمائها الطبقي. لا نحبّ الكلام عن الطبقات، كما لا نحبّ الكلام عن الرأسمالية كنظام اقتصادي. أو نحب الكلام عنها كـ«مجرّد» نظام اقتصادي، لا يطال هويتنا الاجتماعية، أي نظام قائم على السوق وعلاقات العمل فقط، وكأن الرأسمالية نظام يبدأ صباحًا عند الساعة السابعة وينتهي عند الخامسة للبعض أو بعدها عند البعض الآخر. فيترك الناس النظام الرأسمالي لكي يعودوا إلى مجتمعهم الآخر، حيث يمكنهم أن يكونوا من يشاؤون.
لكن، إذا كانت قوّة العمل تنتج القيمة في ميدان سوق العمل وعلاقاته، كما حلّل ماركس، فكيف يتم إنتاج وإعادة إنتاج قوة العمل ذاتها، تسأل نظرية «إعادة الإنتاج الاجتماعي»؟ أو بكلام آخر، إذا كانت نظرية الرأسمالية هي التي تقدّم الرواية لما يحدث بين الساعة السابعة صباحًا حتى الساعة الخامسة بعد الظهر، فإنّ نظرية إعادة الإنتاج الاجتماعي، كما تقول تيتي باتاشاريا، إحدى منظّرات هذه المدرسة من الفكر الماركسي والنسوي، هي رواية ما يحدث قبل الساعة السابعة صباحًا وبعد الساعة الخامسة بعد الظهر. فعمّال وعاملات الرأسمالية يحتاجون إلى إعادة تجديد قوّة عملهم لكي يتمكّنوا من بيعها في سوق العمل، وهذا ما يحدث خارج نطاق الاقتصاد الرسمي. فالقوى العاملة تحتاج إلى مأكل ومأوى وعناية وراحة، وهذا ما يقدّمه المجال الخاص والعائلي. كما يحتاجون إلى رعاية صحية وعناية بكبار السنّ وتعليم ومياه نظيفة وأماكن عامة وكهرباء، وغيرها من التقديمات التي يوفّرها عادة القطاع العام. بالإضافة إلى ذلك، على الطبقة العاملة إعادة انتاج أعضائها عن طريق توليد عمّال جدد أو «استيرادهم»، إمّا قسرًا كما جرى في مراحل سابقة أو «طوعيًا» من خلال الهجرة. فالنظام الرأسمالي يحتاج إلى قوّة عمل قادرة على الإنتاج، وما يسمى بالـ«مجتمع» هو مجال هذه السيرورة.
فالعلاقة بين النظام الاقتصادي ونظام إعادة إنتاج الحياة علاقة ضرورة، لكنّها أيضًا علاقة تناقض.تحاول نظرية «إعادة الإنتاج الاجتماعي» ربط سيرورة إنتاج السلع والقيمة، والتي تحدث في السوق، مع عملية إنتاج الحياة ومجالاتها المتعدّدة. ترفض هذه النظرية في هذا الجمع، وانطلاقًا من جذورها النسوية، الفارق بين العمل المنتج والعمل غير المنتج، أو بين السوق كمؤسّسة وسائر جوانب المجتمع، أو بين إنتاج السلع وإعادة إنتاج الحياة كمصدر للقيمة. وكما أنّ النظام الاقتصادي أخذ أشكالًا مختلفة تاريخيًا، فإنّ أنظمة إعادة إنتاج الحياة تختلف أيضًا، بين تلك القائمة على سيطرة العائلة كالبنية الأساسية مثلًا، وتلك التي يلعب القطاع العام فيها دورًا مهمًا. ومن هنا، يمكن فهم النيوليبرالية ليس فقط كسياسات اقتصادية تعيد تركيب السوق، ولكن كإعادة تركيب لنظام إعادة إنتاج الحياة، من خلال تحميل العائلة عبء بعض خدمات الدولة، مثلًا، أو خصخصة بعضها الآخر وجلبها تحت رحمة السوق. فالعلاقة بين النظام الاقتصادي ونظام إعادة إنتاج الحياة علاقة ضرورة، لكنّها أيضًا علاقة تناقض. الرأسمالية، في سعيها الدائم نحو التراكم، تحاول تحويل إعادة إنتاج الحياة إلى مجال للربح والتراكم من خلال تسليع بعض جوانبها أو السعي إلى تخفيض كلفة إعادة الإنتاج عليها. الأزمات الاقتصادية ليست أزمات في السوق فحسب، أي أزمات ناتجة عن اختلال التوازن بين العرض والطلب أو عن أزمة في أسعار الأصول وما يعنيه ذلك من أزمة في قدرة رأس المال على التراكم. فقد تنتج الأزمات أيضًا من علاقة السوق وحاجاته مع نمط إعادة إنتاج الحياة الراهن. وبكل الأحوال، غالبًا ما تنتهي الأزمات الاقتصادية بإعادة تركيب لهذا النظام، كما جرى مع الأزمات المالية والاقتصادية في العقود الأخيرة، والتي انتهت معظمها بإعادة تركيب لهذا النظام لمصلحة الرأسمال.
إدارة الحياة لبنانيًا
بالعودة إلى مأكلنا ومطبخنا المأزوم، وبعيدًا عن مسألة الهوية بشقّيها الخطابي والممارساتي، يمكن النظر إلى أزمة الأكل أيضًا كأزمة غذائية تطال إمكانية إعادة إنتاج الحياة في مجتمعنا أو على الأقل شكلها الذي اعتدنا عليه. كُتِب الكثير عن ارتدادات الأزمة الحالية في المجتمع، أي ما يسمى بالإعلام «الأزمة المعيشية». لكنّ فهمنا لتلك الارتدادات بقي مرهونًا بالمقاربة الكميّة للأزمة، أي نظرية الانخفاض والانقطاع. لكنّ ما يحدث هو أعمق من مجرّد انقطاع في بعض السلع أو صعوبة حصول الناس على بعضها الآخر، أو انقطاع لخدمات أساسية، كالطبابة أو الكهرباء، عن شرائح متزايدة من المجتمع. ما يجري هو إعادة ترتيب قاسٍ لعملية إعادة إنتاج الحياة في لبنان، أي كيفية إنتاج البشر والعناية بهم ومن ثم إعادة إنتاجهم.
عندما نفكرّ بالنظام اللبناني، تبدو الصورة المسيطرة صورةَ عنف.
نظامنا هو نظام «الحرب الأهلية»؛ تاريخه هو تاريخ مكوّن من «مجازر» و«قصف» و«جثث»؛ ممثّلوه الأساسيّون هم «تجّار العنف»، من رؤساء «ميليشيات» إلى مُرسِلي «سيّارات مفخّخة» مرورًا بأصحاب «كواتم الصوت»؛ بنيتُه الحاكمة قائمة على «ميليشيات» تسيطر من خلال احتكارها «للعنف المسلح»؛ خطابه يمجّد «السلاح» و«القوة»؛ ما تبقّى من مؤسساته الرسمية هي المؤسسات المختصّة «بالقمع والعنف»؛ حتى «مجتمعه» بات مجتمعًا خاضعًا لقوانين «العنف»...
عندما نفكّر بالنظام اللبناني، نفكّر بنظام يدير شؤونه من خلال العنف والموت، وليس بنظام يدير الحياة. فالحياة تدار، حسب هذه النظرة، خارج النظام، في «القطاع الخاص» وفي «العائلة» أو من خلال «الهجرة». نحبّ أن نصدّق أنّ حياتنا «كلبنانيّين» خارج هذا النظام الذي نبغضه، وعندما نلاحظ التقاطع بين النظام وإدارة الحياة، نسمّيه «فسادًا»، نقصد ذلك بالمعنى «الاقتصادي» (أي التدخلات السياسية لتأمين بعض حاجات الحياة لمناصري السياسيين)، لكنّ معناها الفعلي «أخلاقي»، مفاده أنّنا لا نريد الاعتراف بأنّ حياتنا و«النظام» مدموجان ببعضهما بعضاً بطرق لا يمكن فصلها. وهنا لا نقصد المقولة المبتذلة «أنّنا كلنا فاسدون لأنّنا لا نقف بالصف» أو «أنّنا مسؤولون عن النظام لأنّنا انتخبناه» أو «أنّ ثقافتنا هي ثقافة النظام». لا يراد من تلك المقولات فهم النظام، بل الدفاع عنه من خلال محو الفوارق بينه وبين المجتمع الذي يديره. وغالبًا ما يكون أصحاب تلك المقولات على وشك أخذ وظيفة عند أحد السياسيين، بعد فترة في صفوف المعارضة.
عندما نفكّر بالمجالات الحيويّة لإدارة الحياة في لبنان، نجد أكثريّتها خارج نطاق «القطاع العام»، خاصة مع الانهيار الحالي لهذا القطاع، لكنّ هذا لا يعني أن ليس لها علاقة بالنظام. فهي، أكانت البنية العائلية المسيطرة أو القطاع الخاص أو الجمعيات أو غيرها من المؤسسات الموكل إليها إعادة إنتاج الحياة، تقع في علاقة ضرورة ولكن تناقض مع السوق. والأهم من ذلك، أنّها تطورت في علاقة مع هذه المقتضيات الاقتصادية. وهي اليوم تتحول، حسب عدد من الاتجاهات القديمة والجديدة:
- أولًا، هناك ميلٌ مُلتوٍ، لكن واضح المعالم، نحو «تسليع» عدد من الخدمات أو المواد، بعدما انتهت مفاعيل سياسات الدعم أو خدمات القطاع العام. فمن الكهرباء والمياه، والتي كانت تقدّمها الدولة أساسًا، إلى البنزين والدواء والطحين وغيرها من المواد، والتي كانت الدولة تدعمها (ونعني بكلمة الدولة هنا المجتمع، حيث كانت هذه التقديمات مموّلة من خلال موارده)، نلاحظ أنّ كل هذه المساهمات في إعادة إنتاج الحياة باتت سلعاً، تباع وتشترى في الأسواق الرسمية أو البديلة. ونهاية هذا المسار هو التسليع الكامل والرسمي لهذه المواد، حيث ستكون خاضعة لقوانين السوق، وذلك بعدما تُشرعِن الدولة (وهنا نعني بالدولة المؤسسة القانونية التابعة لمصالح السلطة) عملية التسليع هذه.
- ثانيًا، هناك ميل قديم يتجدّد اليوم، وهو خصخصة عدد من وظائف إعادة إنتاج الحياة إلى «العائلة»، من عملية الإنجاب إلى الرعاية بالصغار والعجزة وصولًا إلى تأمين بعض الحماية الاجتماعية، أو إلى مؤسسات المجتمع، من جمعيات وأحزاب ومؤسسات دينية أو إنسانية، والتي باتت المسؤولة عن العناية بالأكثر فقرًا أو مرضًا أو حاجة. ومع الانهيار الكامل للمؤسسات العامة، باتت الطبابة والتربية وغيرها من ضرورات إعادة إنتاج الحياة في يد بعض المؤسسات الخاصة التي لا تكفي خدماتها لتلبية حاجات الحياة هذه.
- ثالثًا، هناك تحوّل في علاقة الخارج بعملية إعادة إنتاج الحياة هذه، حيث قامت العلاقة بالماضي على تحويلات ترسلها اليد العاملة اللبنانية (والتي تمّ إنتاجها في لبنان) ما يسمح «باستيراد» يد عاملة أرخص. لم يكن هذا الاستيراد لليد العاملة في مجال السوق، بل أيضًا في مجال إدارة الحياة ذاتها، حيث ألاف العاملات الأجنبيات تمّ توكيلهنّ رعاية الأطفال والمسنين، ما سمح «للعائلة» بأن تحافظ على دورها. فكما لا توجد عائلة لبنانية من دون البراد، لا عائلة لبنانية من دون نظام الكفالة، أيّاً تكن معاملة العاملة المنزلية. ومع انهيار العملة ومعها الأوضاع المعيشية، بدأت تظهر معالم سياسة «تصدير» لعملية إدارة الحياة هذه من خلال الاتّكال المتصاعد على الدعم الإنساني من المؤسسات الدولية التي باتت ضرورية لتأمين الحد الأدنى من مقوّمات الحياة هذه.
سؤال البنية
فكيف يمكن إعادة التفكير من سياسة تنطلق من نظام إعادة إنتاج الحياة لكي تعيد ربط ما قطعته الأيديولوجية الليبرالية للنظام اللبناني.مع انهيار نظام إعادة إنتاج الحياة، ظهر فراغ خطابنا السياسي القائم على ثنائيات السوق والدولة أو القطاع الخاص والقطاع العام، كما فرطت محاولات فصل السياسة عن الاقتصاد أو محاولات ربطها من خلال خطابات الفساد والحوكمة. فكيف يمكن إعادة التفكير من سياسة تنطلق من نظام إعادة إنتاج الحياة لكي تعيد ربط ما قطعته الأيديولوجية الليبرالية للنظام اللبناني. تختزل عادةً القوى السياسية المهتمة بعملية الربط هذه المسألة بالمستوى السياسي البحت، أي ربط موقف من الفساد مع موقف من العنف، أو الإصلاح والسيادة، مع ما يعنيه ذلك من حلول لفظيّة. ربّما ليس المطلوب اليوم الابتعاد عن المستوى السياسي بقدر ما هو مطلوب القبول بأنّ السياسة وميادينها تغيرت، ما يتطلب مفهوماً مختلفاً لأدوات السياسة، من النظرية إلى التنظيم.
فاصل
مجتمع 1,507
قد يستنتج البعض أنّ ما من جديد في هذه الأزمة، إلّا تعميق لميول بنيوية في النظام اللبناني، تجاه الاتّكال على السوق والقطاع الخاص والبنى الأهلية لرعاية إعادة إنتاج الحياة.
لكن هناك فارق أساسي مع الماضي، أي ما قبل الـ2019، لم نلحظ كامل مفاعيله بعد، وهو انهيار سعر الصرف الذي لم يشكّل «سعراً» مالياً فحسب، بل شكّل الشرط المادي لنمط الحياة وإدارتها بأكملهما، أي مجتمع الـ1,507. فكانت عملية إعادة إنتاج الحياة قبل الانهيار المالي مدعومةً أساسًا من سعر الصرف الذي سمح بخفض سعر هذه العملية من خلال خفض كلفتها (وتحميل أعبائها للأجيال القادمة).
فإذا عدنا إلى كيفية إعادة إنتاج هذه الحياة قبل 2019، نجد أن شروط كافة مؤسساتها كان سعر الصرف هذا. لا وجود لنظام الكفالة، مثلًا، أو على الأقلّ للتوسّع الذي شهده في عقود ما بعد الحرب لولا سعر الصرف الذي جعل كلفة استملاك حياة بشر بهذا الرخص. كما أنّ أنظمة الرعاية الخاصة، أكانت تربوية أو صحية، بقيت متاحة لشرائح كبيرة من المجتمع لأنها «مدعومة» من سعر الصرف. في السياق ذاته، كانت الموارد المستوردة التي تشكّل ركنًا أساسيًا لإعادة إنتاج الحياة، من البنزين إلى الطحين، مدعومةً أساسًا من سعر الصرف. أما السكن، فارتباطه بات واضحًا بالنظام المالي السابق.
اعتبار الـ1,507 كالبنية الأساسية لعملية دعم إعادة إنتاج الحياة يسمح لنا بالخروج من ثنائية الخاص والعام، أي من كان يؤمّن حاجاته من خلال الحيز الخاص ومن كان يتّكل على الخدمات العامة، لكي تظهر حقيقة أنّنا كنّا كلنا تابعين لهذا النظام، بغضّ النظر عن موقعنا الاجتماعي أو كيفية إعادة تأمين إنتاج شروط حياتنا. فمهما أردنا طرد النظام من داخلنا أخلاقيًا، كنّا نعود إليه مع كل دفعة نقوم بها يوميًا.
هذا لا يعني أن النظام السابق كان مساواتياً. لكنّ سرّ استمرار النظام الريعي طيلة هذا الوقت يكمن في تأمينه هذا الدعم لعملية إعادة الحياة من داخله. هذا الدعم كان الثمن الذي قبل به النظام لكي يستطيع أن يراكم ما راكمه. غير أن اللامساواة لم تكن مشكلته الوحيدة. فمع انهيار هذا النظام، بات واضحًا أن مجتمعنا غير قادر على تأمين أبسط مقومات إعادة إنتاج الحياة، إن لم نقُل البقاء على قيد الحياة.
المادّة: الأكل والجراثيم والبنى التحتيّة
تركيبات اجتماعيّة
ما من عائلة حديثة خارج تقنية البراد، وما من عائلة لبنانية نموذجية خارج الـ1,507. أو بكلام أقلّ عنهجية، «العائلة» بنية تاريخية تتحوّل مع تغيرات المجتمع. لا يراد من هذا الكلام فقط الإشارة لفكرة أنّ أكثر مؤسساتنا حميميّة هي تركيب اجتماعي، متأثّر بماديات لا نرغب عادةً في ربطها بما تمثّله هذه البنى من علاقات عاطفية وحميمية. ما يراد من هذا الربط بين برودة البراد وحرارة العائلة هو الإشارة إلى «المادة»، هذا المكوّن الأساسي لوجودنا ككائنات، والذي نحاول بجهد أنّ نتجاهله لما يشكّله من جرح نرجسيّ لصورتنا عن أنفسنا كأفراد عقلانيين ذوي سيادة على حياتهم وخياراتهم وأخلاقهم.
اضطررنا، منذ بضع سنوات، أن نواجه ماديتنا ككائنات. كانت البداية مع أزمة النفايات التي فرضت إيقاع المادة الفائضة، أي النفايات، على المدينة، بعدما خرجت عن سيطرة الشركة المسؤولة عن ضبطها والمكبات الموكلة حبسها بعيدًا عن الأنظار. طافت الزبالة وفضحت الأزمة «التركيب الاجتماعي» المسؤول عن النفايات، تركيب تتداخل فيه الطبيعة، كأجساد تخرى وتحوّلات كيميائية، مع الاقتصاد والفساد، إلى البنى التحتية المهترئة، وصولًا إلى عادات الاستهلاك الاجتماعية. حاولنا ضبط الفضيحة من خلال إرجاع النفايات إلى مكانها الشرعي، أي بعيدًا عن الأنظار، لكنّنا رفضنا أن نفهم درس أنّنا مجرّد جزء من تركيب أكبر.
استمرّينا نتجاهل موقعنا الهامشي حتى جاءت الجرثومة الصغيرة لكي تشلّ الكوكب وتحجرنا في منازل تضيق بنا كل يوم. مع الجرثومة، اضطرّ كلٌّ منّا أن يواجه مادية وجوده، ككائن بيولوجي، حوّلته الجرثومة إلى ناقل لها رغم إرادته. نجح الوباء بإقناعنا بهامشيتنا، رغم اعتراضنا. ومن ثم جاء اللقاح ليعيد تأكيد سيادتنا على الحياة. لكن لمن يقطن هنا، في بلاد الكوليرا، لم تعد هذه العودة ممكنة. فكيفما نظرنا، وجدنا أنفسنا ضمن «تركيبات»، تخلط بين الطبيعي والاصطناعي، لتحوّل الإنسان إلى مجرّد مكوّن، غالبًا ليس هو الرئيسي فيها. ومن هذه التركيبات التي لا تتّضح إلا عندما تكون مأزومة:
- أزمة الكوليرا: جرثومة الكوليرا – مخيمات اللاجئين – سياسات مؤسسات الدولة وعنصرية الدولة اللبنانية – شبكات المياه المهترئة – الكثافة السكانية في المدن – سياسات البنى التحتية اللبنانية...
- أزمة الكهرباء: الأزمة المالية اللبنانية – الحرب في أوكرانيا – اهتراء شبكات التمديد – موتورات الحي – التلوث البيئي – مرض السرطان – شبكات التهريب...
- أزمة الأكل: الأزمة المالية – سياسات التصدير والاستيراد – اهتراء التربة تاريخيًا – شبكات المياه – أزمة الكهرباء – بنية سوق الغذاء – الاحتباس الحراري...
فما وضّحته الأزمات المحدّدة، وليس الأزمة كمفهوم مجرّد، هو «التركيب الاجتماعي» الذي كان يدير كل جانب من حياتنا الجماعية. فللأزمة أيضًا بعدٌ معرفيّ: فهذا «التركيب الاجتماعي» لا يظهر إلى العلن إلّا في لحظة انهياره، ليبدو كخلاصة تاريخ من السياسات الاقتصادية، ومن مسار للبنى التحتية، ومن تحوّلات طبيعية، ومن تغيرات ديموغرافية، وغيرها من الأمور، تضع «الإنسان كفاعل» في هامش الصورة، وليس في وسطها كما يحلو له النظر إلى ذاته.
خطاب السيادة
أن تكون للأشياء، الطبيعية أو الاصطناعية، فعالية قد تفوق أحيانًا فعالية اللاعبين السياسيين، هي فكرة لا نرتاح لهاأن تكون للأشياء، الطبيعية أو الاصطناعية، فعالية قد تفوق أحيانًا فعالية اللاعبين السياسيين، هي فكرة لا نرتاح لها. فالحداثة في جوهرها قائمة على فكرة سيادة الإنسان الحر على نفسه ومحيطه وتاريخه. وحول هذه السيادة المزعومة تمّ بناء هيكل من الأفكار والممارسات السياسية التي تفترض قدرة هذه السيادة وضرورة سيطرتها على الحياة. سياسيًا، تُرجِم هذا التوجّه، على الأقلّ بعد انحدار نظريات الفعالية السياسية القائمة في القرن العشرين، بمقاربة ترى «الدولة» كالفاعل الأساسي، من خلال شقّيها القانوني والإداري، مع ما يعنيه ذلك من مفاهيم مرتبطة بالمواطنة كالهوية الأساسية في السياسة، والأحزاب كالجسم التنظيمي، وغير ذلك من فتات هذا الخطاب السياسي.
وصل هذا الخطاب إلى ذروته مع «الثورة» وادّعائها تمثيل «الشعب» في وجه «النظام» ومحاولاتها الرمزية استرجاع «المجلس النيابي» كمدخل لإعادة إصلاح مجرى تاريخ هذا «الشعب» وفرض سيادته على «مستقبله». لكنّ «الثورة» لم تتهافت جراء القمع أو الوباء فقط، بل ربّما لأنّها وصلت إلى الحدود القصوى لهذه المقاربة، فواجهت حقيقة أن مكمن السلطة الرسمية فارغ. باتت «الثورة» تقارع جثث مؤسسات، وما من مشهد أكثر تعبيرًا لفراغ هذه المقاربة إلّا حفنة من «نواب التغيير» القابعين في مجلس نيابي فارغ ومُعتِم يطالبون زملاءهم بانتخاب رئيس لهذه المؤسسات منتهية الصلاحية.
الفضول بدل الالتزام
ما من جواب حاضر لطبيعة السياسة التي تتلاءم مع واقعنا. لكنّ المطلوب للحظة سحب هذا السؤال المتسرّع والملتزم واستبداله بفضيلة الفضول، الفضول تجاه مجتمع يتغير تحت أنظارنا. فضول أو حتى تعجّب من الواقع وكأنّنا نواجهه للمرة الأولى. فكما تكتب الكاتبة النسوية سارة أحمد في كتابها «السياسات الثقافية للشعور»: أن نتعجّب هو أن نتعلّم أن نرى العالم كشيء غير حتميّ، وكشيء صار كما هو، مع الوقت ومن خلال عمل.
فربّما كان المطلوب اليوم هو الفضول حيال هذا الواقع الجديد الذي يبحث عن كلماته.
اخترنا لك
آخر الأخبار
مواد إضافيّةالجنائية الدولية تصدر مذكّرة اعتقال بحق محمد الضيف
أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق القائد العام لكتائب عزّ الدين القسّام، محمد الضيف أو محمد دياب إبراهيم المصري، بتهمة «ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية وجرائم حرب على أراضي دولة إسرائيل ودولة فلسطين منذ 7 تشرين الأول 2023 على الأقلّ». وأشار نصّ القرار إلى عدم الحسم ما إذا كان الضيف لا يزال على قيد الحياة، إذ سبق أن أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي اغتياله في تموز 2024، في المجزرة التي ارتكبها في المواصي وأدّت إلى استشهاد ما لا يقلّ عن 90 مدنياً.
ويُذكر أنّ الجنائية الدولية تراجعت عن إصدار مذكرات التوقيف بحق كلّ من رئيس المكتب السياسي الأسبق اسماعيل هنية وخلفه يحيى السنوار، عقب الإعلان عن اغتيالهما في آب وتشرين الأول الماضيَين.