فكرة قراءات 2022
سامر فرنجية

آخر أمبير 

قراءة في تقرير «مشتِركين بالعتمة: يوميّات من حي الطَمليس»

6 تشرين الأول 2022

«طقوس الاستهلاك» والتحوّلات الاجتماعية

قداحات الانهيار
لاحظ صديق، وهو يحاول إشعال سيجارته، أنّ القدّاحات المتوفّرة حاليًا في الأسواق سيئة، تتعطّل أو ينفد غازُها قبل انتهاء علبة الدخان. فبات على المدخّن أن يحمل معه أكثر من قدّاحة للتأكّد بأنّه سيستكمل علبته. القدّاحات الجيّدة، كقدّاحات «البيك»، أصبحت غالية أو غير متوفّرة، وصاحبها تحوّل إلى مدخّنٍ متوتّرٍ، عينه دائمًا على قدّاحته. لم يعد يتساهل مع لعبة سرق القدّاحات، كما كان الوضع في الماضي.
القدّاحات عيّنة صغيرة عن التحوّلات في «طقوس الاستهلاك» ما بعد الانهيار. تغيّر المشهد الاستهلاكي في السنوات الأخيرة ليتماشى مع الانهيار الاقتصادي وانحلال البنية التحتية وأزمة الطاقة. وهذا التغيّر في «طقوس الاستهلاك» إشارة إلى تحوّل اجتماعي أعمق. فالتحوّلات التقنيّة عادةً من أهمّ دوافع التحوّلات الاجتماعية. فكما كان لدخول الكهرباء أثر عميق على سيرورة تحوّل مجتمعنا، خروجها منه سيكون له أثر أكبر. 

انفصام نوعيّ
في لحظات تحوّل اجتماعي عميق كالتي نعيشها، يصعب معاينة طبيعة واتجاه وأثر هذا التحوّل. فمَن يعاين المشهد الإعلاني مثلًا، يلاحظ حالةً من الانفصام، بين مشهد اعلاني «رسمي» ما زال يسوّق لبضاعة ما قبل الانهيار، من تلفزيونات ذكية إلى أحدث الهواتف الخلوية، ومشهد تسويقي «فعلي»، ينتشر من خلال «الواتس أب»، يقدّم بضاعة الانهيار، من سخان ماء على الغاز إلى غسّالة تعمل بأقلّ من أمبير.
صعوبة التقاط طبيعة التحوّل الحالي نابعة من أنه ليس مجرّد عملية تفقير ممنهج للمجتمع، تقاس «كمّيًا» من خلال انخفاض سعر العملة أو ساعات الكهرباء، أو ازدياد نسب البطالة أو الهجرة. هي كل ذلك، من دون شكّ، والإحصاءات حاسمة بقدر ما هي مرعبة. لكنّ ما يجري أكثر من ذلك. هو عملية تحوّل اجتماعي، لا تشهدها المجتمعات إلّا نادرًا، بلحظات حروب مدمّرة أو كوارث طبيعية مهولة، تحوّل سينتج مجتمعًا جديدًا، ما زلنا نجهل معالمه. 


معاينة التحوّل من دون معيار

أزمة معايير 
من الصعب معاينة تحوّل كهذا والبدء بتلمّس بعض جوانبه ونحن ما زلنا في أوّله، نحصي أثره المباشر على حياتنا وأجسادنا ومستقبلنا. لكنّ الصعوبة لا تنبع فقط من عنف هذا التحوّل، بل من متطلبّات فهمه، وهي التخلّي عن معاييرنا وتوقّعاتنا و«حدود المعقول والمقبول» التي اعتدنا عليها. 

  1. معيار الآخر: لفترة طويلة من تاريخنا، شكّل «الآخر المتخيّل» مصدر فهم ذاتنا ومجتمعنا، وشكّل النموذج والمعيار، هذا إن لم يكن مصدراً دائماً لتأنيب الضمير. في الآونة الأخيرة، لم يعد هذا الآخر «الغرب» أو «الرجل الأبيض»، كما كان في الماضي. فحتى أكثر اللبنانيين تمسكًا بتفوّقهم الحضاري لم يعودوا مقتنعين بمقارنة كهذه، وهم ينظرون إلى تدهورهم على سلّم التراتبية الحضارية.
  2. معيار المهاجر الجديد: جاء في الآونة الأخيرة من يأخذ مكان هذا «الغرب» المتخيّل كمعيار لمعاينة التحوّل الحاصل، وهو المهاجر الجديد. شكّلت النظرات المستغربة والمصدومة لهذا الكائن المعيار الذي نعاين من خلاله مدى تحوّلات مجتمعنا، ومدى تأقلمنا معها. فبتنا نرى بعيونه ما لم نعد نراه بعيوننا، لنؤكّد له صوابية قراره بالرحيل.
  3. معيار المجتمع القديم: أمّا من بقي هنا، فلم يكن له مدخل أفضل لهذا الواقع المتحوّل. فكان منهكًا بمعاينة مدى اغترابه عن هذا المجتمع الجديد ومدى فقدان صلاحية توقّعاته ومعاييره الاجتماعية. هو قاطن هنا، لكنّه، كسائر من هم هنا، دخلاء على هذا المجتمع الجديد. 

«حدود المعقول والمقبول»
الأزمة ليست اقتصادية وتقنية واجتماعية وحسب، هي أيضًا أزمة معرفية، أزمة طالت أسس فهمنا لمجتمعنا ولطبيعة قوانينه وهويته. أبعد من ذلك، هي أزمة قضت على «حدود المعقول والمقبول»، أي حدود ما اعتدنا على اعتباره ممكنًا ومتاحًا وما تعلمّنا على اعتباره مستحيلًا، لتضعنا في وجه مجهول لا نعرف حدوده بعد. 
في وجه أزمة كهذه، لا يفيد التمسّك بمعاييرنا القديمة، مهما كانت، كفعل مقاومة متخيّل أو ممانعة أمام هذا الجديد القاسي. من الأفضل الرضوخ للفضول والحشرية التي ينتجها انحلال «حدود المعقول والمقبول». والفضول هنا لا ينفي السياسة ولا يشكّل رفاهية، كما يعتقد مستعجلو السياسة، من التغييريين إلى النشطاء. فالفضول قد يشكّل اليوم أحد شروط السياسة التأسيسية. 
ربّما يصعب على «الكلام» التخلّي عن عرشه المعياري، إلّا مرغمًا. وهو اليوم مرغم على ذلك، كما يظهر من التكرار المضجر في المقالات، أو حتى من صمت البعض، اعترافًا منهم بأنّ لا جديد يمكن أن يقال اليوم. لكن ربّما كان أسهل على «الصورة» التخلّي عن نظرة معيارية كهذه، الصورة كمدخل لغير متوقّع لا يضبطه إيقاع الكلام. وهذا ما استطاع التقاطه الصديق حسين بصل في تقريره «مشتِركين بالعتمة: يوميّات من حي الطَمليس»، حيث نلتمس في خلفية التقرير، من وراء كلامه المقتضب، بعض انعكاسات هذا التحوّل العميق.


 نوستالجيا لعالم الكهرباء 

ركام مجتمع الكهرباء
على خلفية ماكينات متوقّفة، جامدة، مغبّرة، مقطوعة عن ومن الطاقة، يتكلّم الناس الذين يعيشون على أقلّ من نصف أميبر. على خلفية ركام مجتمع كهربائي، ركام مكوّن من مروحة متوقفة وأي-سي مغبّر وتلفزيون أسود وبراد بات خزانة، يرسم سكّان حي الطمليس معالم شعور عامّ ومشترك، هو شعور العودة إلى الوراء: رجعونا مية سنة لورا، رجعنا عل طريقة البدائية، من زمان… من يعاين تلك الماكينات المتوقّفة والمغبّرة، لا يمكن إلّا أنّ يسمع صدى صوتها، صدى بعيد لمجتمع كهربائي كان يومًا ما هنا، صدى لا تخفيه الكلمات.
ربّما كان «التقدّم» من أساطير الحداثة، كما علّمنا منظّرو ما بعد الحداثة، مجرّد غطاء أيديولوجي لعمليات من التحديث القسري، أخذت اسم «الحضارة» من هنا و«الاستعمار» من هناك. لكنّ التراجع حقيقة مادية، نستطيع لمسها من خلال ركام ماكينات الحداثة. وهذه الماكينات ليست فقط براداً من هنا ومروحة من هناك، هي أيضًا «الدولة» و«المواطن» و«القانون»، وغيرها من المؤسسات والمفاهيم، التي لم تعد تشكّل اليوم وعدًا مستقبليًا، بل مجرّد ذكريات من عالم ولّى. ربّما كانت الحداثة أسطورة، لكنّ ركامها حقيقة مادية، أو ربّما كانت الحداثة عندنا منذ نشأتها مشروع ركام. 

الكهرباء والحرب
لكنّ لشعور العودة إلى الوراء ميزة لبنانية، وهي ارتطام أي عودة إلى الوراء بحائط إسمه الحرب الأهلية. يقول أحد السكّان وهو يعاين «تراجعه»: رَدّونا لأيام الحرب الأهلية. ففي مخيّلتنا السياسية، القديم، أي هذا الذي يأتي قبل بداية أي تاريخ، والشرّ، أي هذا الذي يهدّد أي مجتمع بخطر الانحلال، يشكّلان اللحظة نفسها، لحظة الحرب الأهلية. 

فانقطاع الكهرباء ليس مجرّد أزمة تقنية لسكّان بلد ما بعد الحرب، هو أكثر من ذلك. هو إشارة للاقتراب نحو لحظة الاقتتال الأهلي، لحظة الحرب الأهلية، وكأنّ هذا الاقتتال لا يحدث إلّا في الظلمة. فللكهرباء «هالة» خاصة في متحف التكنولوجيا، وهي التقنيّة التي حدّثت المجتمعات وحوّلتها بطريقة جذرية. ولكنّ لهذة التقنيّة «هالة» بعد أكبر في مخيلتنا السياسية. أفَلَم تشكّل الكهرباء وتوحيد شبكتها أحد أركان مشروع رئيس النوستالجيا اللبناني، فؤاد شهاب، أي مشروع الانصهار الوطني من خلال انصهاره الكهربائي؟ وربّما كان انحلال الشبكة الوطنية، واستبدالها بتركيبات منطقية مختلفة، أبرز دليل عن انفراط المجتمع، ومعه أي مشترك مادي. 
انقطاع الكهرباء هو عودة للوراء، والعودة للوراء هي الحرب. 


ثقافة الخمسة أمبير وسياستها

العودة المخيفة إلى المادة
لكن رغم صلابته، لا يلتقط خطاب «الحرب الأهلية» هذه «العودة إلى الوراء». هو أقرب إلى محاولة لتحديد وتثبيت بعض معالم هذا المجهول، من خلال إرجاعه لذاكرة شرّ نعرفه. لكنّ ما نخشاه فعليًا ليس العودة إلى الحرب، بل اكتشاف أنّ هناك شرًّا أسوأ منها. فنحاول ألّا نرى مدى الجديد في تحوّلنا الاجتماعي، ريثما نستطيع ضبطه في سردياتنا المعتادة. لكنّ ما يرشح من كل صورة في التقرير هو هذا الجديد، إشارات وانعكاسات عن مجتمع لن يعود لما كان عليه. صور عن برادات باتت خزائن، عن طبخ بات مستحيلًا لغياب البرادات، عن عائلات لم تعد تأكل سوية لانتهاء عادة الطبخ. صور عن ماكينة قهوة متوقفة، عن وظائف انتهت لاستحالة بيع القهوة، عن قوارب في البحر، عن موت في قعره.
صور عن تلفزيون منطفئ، صور عن راديو عائد، تحت آخر لمبة في حي. قد تنتهي كل هذه الصور بحرب. أو لا. لكنّها تنذر بمجتمع جديد، مهما كان قاسياً، مجتمع «الخمسة امبير».

هذه العودة إلى المادة ليست جديدة، مهما كانت قسوة الحالة مفاجئة. فللتذكير، انطلقت الحركات الاحتجاجية في لبنان مع حراك الـ2015 ومطالبه «البيئية»، التي تبدو اليوم وكأنّها آتية من غير كوكب. فكانت شرارة المظاهرات احتلال شوارعنا ومدننا من النفايات، وما أنتجته من إحساس عميق من النفور تجاه اختلاطنا بخرائنا. ربّما كان «الخطاب البيئي» آنذاك، أي كلام الاختصاص البيئي الذي ينتج بأحسن الأحوال نواباً تغييريين، فارغاً من أي سياسة. لكنّ هذا الحراك شكّل أول تصادم مع ماديّتنا، وإن حاولنا الهروب منه، وإن شعرنا بالنفور تجاهها. 

ركام الثورة
تبدو الثورة اليوم، على خلفية ركام المجتمع الكهربائي، كآخر «ادّعاء السيادة» من قبل سكّان هذا المجتمع على ماديّتهم. جاءت الثورة مع شعارات «الشعب يريد» و«إسقاط النظام» و«تغييره» لتحاول، للمرة الأخيرة، أن تفرض سيادة القاطنين هنا على مصيرهم. بهذا المعنى، كانت الثورة آخر محاولة للهروب من ماديتنا من خلال إرادويّة سياسية. ومن بعدها، عادت المادة، أولًا كَوَبَاء بيولوجي ومن ثمّ كأزمة مالية، قبل أن تصبح انهياراً مادياً، أنتج «مجتمع الخمسة أمبير». وربّما للدفاع عن «ادّعاء السيادة» هذا، نفضّل العودة إلى خطاب الحرب الأهلية، الذي رغم شرّه، يشعرنا بأنّنا ما زلنا سياديين. 

«مشتِركين بالعتمة: يوميّات من حي الطَمليس» لا يطرح هذه الأسئلة. لكنّه بتصويره الخافت والهادئ يؤكّد لنا هذا الشعور الدفين بأنّ خطاباتنا السياسية، الثورية والتغييرية، باتت تنتمي لمجتمع ولّى. فأيّ سياسة «مدنية» بمجتمع يعيش بأقلّ من خمسة أمبير؟ أي تغيير سياسي في ظل إحساس عامّ بالتراجع؟ أيّ تغيير وأهداف التقدّمية باتت ركاماً؟ أي انتخابات، نيابية أو رئاسية، والبرادات مطفأة؟ هذه ليست دعوة إلى شعبوية سياسية، أو ثورية طبقية. هي مجرّد إشارة إلى أن خطاباتنا السياسية تحتاج إلى أكثر من خمسة امبير. لا يطمح «مشتِركين بالعتمة: يوميّات من حي الطَمليس» إلى تقديم أجوبة على هذه الأسئلة، لكنّه يقدّم شيئًا أهم من الأجوبة اليوم. يُظهر ما يمكن أن يلتقطه الفضول عندما يتحرّر من المعايير البائتة. وما التقطه هو لمحة عن المجتمع الذي يفترض أن يسأل هذه الأسئلة والذي يجب أن يشكّل أرضية الإجابات عليها. 

 

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
هكذا أصبح نتنياهو وغالانت مطلوبَيْن للعدالة
12 غارة على الضاحية الجنوبية لبيروت
5 تُهم ضدّ نتنياهو وغالانت 
الاتحاد الأوروبي: قرار المحكمة الجنائية مُلزِم لكلّ دول الاتحاد