السويداء، مجدّدًا
بعد أيام من الاشتباكات والإعدامات الميدانيّة، سلّم أحمد الشرع السويداء لمشايخ العقل وبعض الفصائل المحليّة. جاء اتفاق وقف إطلاق النار بعد مئات القتلى، وبعد سلسلة غارات عنيفة نفّذها جيش الاحتلال الإسرائيلي على وزارة الدفاع ومقرّ هيئة الأركان والقصر الرئاسي في دمشق. ليس واضحاً إن كان أحمد الشرع قد فقد السيطرة على فصائله أم عوّل على همجيّتها لارتكاب أعنف الانتهاكات. لكنَّ الواضح أنَّ حكومة الشرع استغلّت الاشتباكات المفتعلة بين عشائر البدو على أطراف السويداء والفصائل الدرزيّة، كي تنهي ملف المحافظة. إلّا أنَّ محاولات استئصال القرار الدرزي لم تنجح، فاضطرّ الشرع أن يساوم بعدما غدرت به إسرائيل، رغم كلّ المجاملات والتلميحات بتطبيعٍ بالأفق.
ليست المرّة الأولى التي تحاول فيها السلطة المركزية السيطرة على السويداء. كما ليست المرة الأولى التي ترتكب فيها «فصائل» مجازر، قبل محاولة احتوائها والتبرؤ منها. وليست المرّة الأولى الذي يستعمل فيها خطاب «التجاوزات» لتبرير أشنع الانتهاكات أو للتمهيد لانتهاكات «رسمية».
هذا العنف لم يعد تجاوزاً أو انتهاكات تسقط سهواً في مرحلة بناء الدولة. هذه هي ملامح الدولة الجديدة، ملامح «دولة الشرع». فسلسلة «الانتهاكات» طوت صفحة بناء الدولة، لتنذر بشكل الدولة الجديدة، دولة تغذّي الطائفيّة بالاشتباكات وقمع الأقليّات وترهّب المعترضين، وتبحث عن شرعيتها عند الخارج.
العنف كمنطق للدولة
لم نعد إذاً في مرحلةٍ نطالب بها الشرع بمحاسبة المتورّطين من فصائله بالانتهاكات. فهو الذي كرّم الفصائل التي ارتكبت المجازر في الساحل بمناصب رسميّة، وعاد وأرسلها نفسها إلى السويداء في رسالة تهديدٍ واضحة. مضت أربعة أشهر ولم تستنتج لجنة التحقيق بمجازر الساحل بعد أيّ فصائل فظّعت بالمدنيّين في بيوتهم. وستمضي أشهر على إعدامات السويداء، ولن تستنتج أيّ لجنةٍ مَن نفّذها أو أمر بها. دولة الشرع إذاً قامت بالفعل، وهذا شكلها: تعزيزٌ للتطييف والتقسيم والترهيب، والإفلات من العقاب.
لم يعد هناك معنى للعدالة الانتقاليّة التي توعّدت بها الدولة الجديدة، فهي لم تساند ضحايا الأسد، ولن تنصف ضحايا الشرع. في آخر مؤتمرٍ عقدته لجنة السلم الأهلي، وبّخت الأهالي الذين اعترضوا على تعويم مجرمي الأسد كفادي صقر. بنبرةٍ فوقيّة واستهزاءٍ بعقول السوريّين، قالت اللجنة: السلم الأهلي أعقد من فهمكم، ولا يحقّ لكم الاعتراض على سياسات الدولة، ثقوا بها بعمى، فهي أيضاً ضحيّة الأسد. نرى إذاً أنَّ الشرع، حتّى عند محاولته استخدام منطق العدالة الانتقاليّة، فشلت مؤسساته بتحقيق أيّ من ذلك. لكنّه صدقَ عندما قال «لسنا ممّن يخشى الحرب»، في خطابه الأوّل بعد اشتباكات السويداء، فهو لا يجيد سوى العنف وبناء الأمجاد على دم السوريّين.
كان هناك طريقان لبناء هذه الدولة، دولة ما بعد الأسد. الأوّل هو طريق العدالة الانتقالية، ليس لإنصاف ضحايا الماضي وحسب، بل أيضًا لمنع وقوع ضحايا في المستقبل. طريقٌ كان بإمكانه بناء نظام سياسي يمنع العودة إلى سياسات الأسد، والعنف والإقصاء والاستتباع. أمّا الطريق الثاني، فهو طريق يعيد إنتاج منطق عنف الدولة، سواء كانت بعثية أو ما بعد بعثية. والأحداث المتتالية باتت جوابًا واضحًا عن الطريق الذي اختاره الشرع.
التطبيع ورقةً أخيرة
يجيد الشرع، إلى جانب العنف، المناورة. صحيحٌ أنَّ إسرائيل غدرت به واستهدفت قوّاته في سائر المحافظات السوريّة بعد عودته من أذربيجان، لكنَّ الرادع الوحيد الذي منع فصائله من ارتكاب المزيد من المجازر في السويداء هو الوساطة الأميركيّة بينه وبين إسرائيل. لعلّ الشرع أدرك أخيراً أنَّ إسرائيل ليست طرفاً جادّاً بأيّ عمليّة مفاوضات. فلا يردع وحشيّتها أيّ تنازلات، بل تريد إذلال خصومها وحلفائها قدر الإمكان وتحت أيّ ظروف. بدا ذلك واضحاً من نبرته في خطاب الهزيمة الذي تحدّث فيه عن مواجهةٍ مع إسرائيل. رغم ذلك، يبدو أنَّ الشرع، كالأسد من قبله، فهم أنّ مفتاح القمع في الداخل هو استرضاء الخارج، فاعتبر أنّ ما يمكن أن يقدّمه من إشاراتٍ تطبيعيّة قد يقدّم الغطاء المطلوب لبسط عنف دولته في الداخل.
الغطاء الثاني الذي احتمى به الشرع هو الدور الإقليمي المزعوم لسوريا الجديدة. كرّت سبحة البيانات الخليجيّة التي تمسّكت بوحدة سوريا، هذه العبارة التي باتت مبرّراً للتجزير بالداخل السوريّ وتصفية المدنيّين السوريّين، بحجّة بسط سيادة الدولة. عوّم الخليج إذاً نظام الشرع، كما عوّم نظام الأسد في سنواته الأخيرة. انتشل سوريا من حضن محور الممانعة ليروّضها ويُجلسها في حضن محور التطبيع. هذا المحور الذي يحاول تطبيق تحويل سوريا إلى أردن ثانية، إلى دولةٍ عنيفة على أهلها، ضعيفة إقليميًا، لكنّها تُصوَّر كقوّة إقليمية وازنة يُبرّر لها أيّ قمعٍ وترهيب.
مسلسل المجازر لم يعد تجاوزًا معزولًا، بل بات طريقة حكم، تنذر بإعادة إنتاج إحدى صفات نظام الأسد، وهي عنف في الداخل مشروط بتخاذل مع الخارج. كان هناك طريق آخر ممكن، لكن غالبًا ما ينتهي أعداء نظامٍ ما كمرآة وفيّة له.
أهلاً بكم في دولة الشرع التي هزمت الأسد وثورة السوريّين معاً.