ظننتُ بدايةً أنّها مرايا.
ثم تنبّهتُ أنّها صوَر، صوَر لشباب وشابّات من جيلي، يبتسمون، وسط زمامير يطلقها موكبٌ سيّار. إنّها سيارات أهالي ضحايا الانفجار، بعضهم يقود، وبعضهم الآخر يجلس على الشباك ويرفع الصوَر، وأنا أجلس على الرصيف أتابع المشهد. أتابع بالتحديد مسنّاً يقود بيدٍ سيّارةً نمرتها حمراء، ويحاول باليد الأخرى أن يرفع صورة ابنته. وأنا أجلس على الرصيف، أتابع المشهد.
في المرّة الأولى، تقول، حسناً لم أفقد سوى روحي وهي متعبة. فلا بأس.
قبل هذا المشهد، كنت أتابع أخبار «الانقطاع».
ما السلعة التي انقطعت اليوم؟ أو، ما السلعة التي صورَخ سعرها لدرجة أن أضعها في عداد المقطوعات؟ أو، ما المادة الأساسية التي لن تستوردها الدولة اليوم؟ أهي البنزين؟ أهي فيول الكهرباء؟ أهو الدواء؟ أيموت اليوم مسنٌّ آخر بسبب التقنين؟ أتموت طفلةٌ أخرى بسبب فقدان الدواء؟
في المرّة الثانية تقول: تعب جسدي منّي وأبى أن يحملني أعواماً أخرى وغادرني.
أساساً، كيف حملني جسدي في الأعوام السابقة؟ لا أستطيع أن أتذكّر. محا صدى الانفجار كل ذكرى سابقة لـ4 آب. كيف كانت حياتنا قبل الانفجار؟ لا أعرف. ما أعرفه أن الأسوأ لم يأتِ بعد، وأن انهيار الوضع العام تسبّب بانهيار وضعنا الخاص، وأن انهيار الاقتصاد والسياسة تسبّبا بانهيار النفس والاجتماع.
فهمنا اليوم أنّنا لسنا في أزمةٍ عابرة، وأن الانهيار باقٍ ما استطاع، وأننا نغرق فيه ويغرق فينا بلا منفذٍ أو مهربٍ أو مخرجٍ. لا مخرج سوى طابعٍ صغيرٍ اسمه «فيزا»، حصل عليها بعض المحظوظين منّا، فرِحنا لهم، وبكينا مصيرنا في هذه البقعة الجغرافية الكئيبة.
وفي المرّة الثالثة لا تقول شيئاً.
فما الذي بقي؟ لم يبقَ شيء ليغادرك، فلا تنتبه. تصبح ظلاً بين الظلال الكثيرة.
يبقى ذكرى، وظلّك، وظلال.
هنا ظلال تنتظر دورها لجرعة بنزين. هنا ظلال تصطفّ أمام رف «المدعوم». هنا ظلال للحصول على السقف الأسبوعي من أوراق المونوبولي. هنا ظلال تبحث عن الفوطة الصحية الأنسب، من دون دفع الحد الأدنى للأجور.
يبقى ذكرى، وظلّك، وظلال.
ذكرى انفجارٍ وضعنا بما نحن عليه اليوم، وها هو يمرّ اليوم والأهالي يجولون بسيارتهم أمامي مع صوَر الضحايا، وأنا جالسة على الرصيف. وهناك، في مكانٍ بعيد، «رئيس» وافق على أن تكون الذكرى حداداً، فقط لا غير، من دون أي ذكر للمحاسبة، أو لإسقاط الحصانات، أو لإقالة حصّته الزبائنية من وظائف عامة فاشلة. وكيف يدعو للمحاسبة، نفس الشخص الذي كان يعلم؟
في المرّة الأولى، تقول، حسناً لم أفقد سوى روحي وهي متعبة. فلا بأس. في المرّة الثانية تقول: تعب جسدي منّي وأبى أن يحملني أعواماً أخرى وغادرني. وفي المرّة الثالثة لا تقول شيئاً. فما الذي بقي؟ لم يبق شيء ليغادرك، فلا تنتبه. تصبح ظلاً بين الظلال الكثيرة.
كتب هذه الكلمات بسام حجار، في ديوانِ «مجرد تعب».
مجرد تعب، مجرد غضب، مجرد عجز. عجز عن تذكّر الماضي، أو معالجة الحاضر، أو تنبّؤ الغد. متى نخرج من فكرة النجاة؟ متى نلتئم؟ أو بالأحرى كيف نلتئم؟
هي الأسئلة نفسها، والدوامة نفسها، والقتلة نفسهم. هؤلاء أجابتهم جدران المدينة: فجّرتونا حرفياً - نعيش لقتلكم