يلخّص مشهد جلسة إقرار الموازنة الواقع السياسي بعد أكثر من 100 يوم على الثورة: رئيس حكومة وحيد، يردّد درسه كالتلميذ المطيع تحت مراقبة استاذه، نصاب بالكاد تأمّن مع «المشاركة الاعتراضية» لتيار المستقبل والحزب الاشتراكي، إقرار موازنة بات غير صالحة بأكثرية هزيلة وبالسرّ، جدران باطونية تحمي هذه المهزلة وانتشار ضخم للقوى الأمنية لقمع بضعة متظاهرين. لم تكن الجلسة هرطقة دستورية وحسب، بل كانت أقرب إلى «بلطجة مؤسّساتية».
لم يكن الحدث إقرار الموازنة. فهي «لاحدث اقتصادي». كانت أرقامها غير واقعية قبل الأزمة، ولكنّها أصبحت من بعدها أقرب إلى رشق عشوائي للتوقعات. دخلت إدارة الأزمة الاقتصادية عالمًا موازيًا، لم يعد يمتّ للاقتصاد الفعلي بصلة: موازنة غير صالحة، سعر صرف مثبت في خيال حاكم المصرف، ورقة إصلاحية هزيلة يتناقلها رؤساء الحكومة، وزراء يعلنون فشلهم حتى قبل أن يبدأوا عملهم... أما المصارف، فبات لهم وزراؤهم الذين سيحافظون على مصالحهم خارج فذلكات الموازنة.
لم يكن الحدث الحكومة الجديدة. فهي حكومة «الجلسات غير المنقولة»، حكومة بدأ مسار تشكيلها بالبحث عن «وحدة وطنية» لتصبح حكومة «اللون الواحد»، قبل أن يبدأ هذا العقد بالانفراط وتظهر انقسامات المحور الواحد إلى الواجهة: فرنجية/ باسيل، برّي/ السيّد، باسيل/ برّي... إنّها حكومة فاقدة لأي مشروع اقتصادي، كما تبيّن اليوم عندما ضحّت بأداتها الاقتصادية الأساسية، وفاقدة لأي مشروعية سياسية، كما ظهر بالنصاب الهزيل الذي احتاج إلى شطارة الأستاذ لكي ينتزع تصويتًا. بدت الحكومة الجديدة رهينة توازنات سياسية هشة، وكأنها نتاج لحسابات متناقضة لأطراف سياسية متصارعة، تقاطعت في صورة البروفيسور الأبله الجالس وحيدًا في مجلس النواب.
لم يكن الحدث داخل مجلس النواب. كان خارجه، في تلك الجدران الباطونية التي نُصِبت في وسط بيروت والانتشار غير المسبوق للقوى الأمنية والجيش اللبناني. الحدث، بكلام آخر، هو المواكبة الأمنية لهذا «اللاحدث» السياسي والاقتصادي، وكأنّ الجيش أخد على عاتقه إدارة حالة الانهيار الراهنة. فنُصبت الجدران كي يمنع المتظاهرين من الدخول، ولكن أيضًا كي يمنع السياسيين من الخروج، سياسيّين ما عادوا يستطيعون الوصول إلى «مجلسهم» من دون حماية الجيش. هنا تكمن مفارقة هذا النهار. فقد بدت القوى الأمنية وكأنّها حسمت خياراتها بالسيطرة على الساحة والإمساك بزمام الأمور، مبدية تنسيقًا غائبًا على المستوى السياسي. حكومة دياب ليست حكومة عسكرية، ولكنّها حكومة أمنية، حكومة لا تستطيع الاستمرار من دون قبضة أمنية تؤمّن لها الحماية من عقدها السياسي الفارط، من جهة، ومن ضغط الشارع المتزايد، من جهة أخرى.
القرار المالي لم يكن يومًا في يد الحكومة. أما القرار السياسي، فبات موجودًا في كواليس المجلس، لتتحوّل «الحكومة المستقلّة» إلى ألعوبة بين أيادي الكتل النيابيّة وصراعاتها «غير المنقولة». اليوم، انفصل القرار الأمني عن الحكومة، ليذهب إلى غرف التنسيق السوداء، وباتت تلك القوى خصمًا لا مجرّد راعٍ لسلمية التظاهر. أمّا حكومة البروفيسور، فباتت وهمًا هدفه كسب بعض الوقت حتّى تتأقلم المصالح المسيطرة مع الأزمة الراهنة.
حسان دياب، بهذا المعنى، هو الترجمة السياسية لسعر الصرف الرسمي، لا وجود له خارج خيال السلطة.