ديستوبيا الحاضر
في الخيال «الديستوبي»، سواء في الأفلام أو الروايات، تشكّل اللغة، أو الكلام، أحد أهداف السيطرة الديستوبية. هي أنظمة، حسب الأمثلة، تقوم على المنع والمراقبة، على قطع التواصل بين الناس وفرض ازدواجية في الكلام. تقوم أيضاً على فيض من البروباغندا وتحويل الكلام إلى إحدى السلع الممنوعة التي يتمّ التداول فيها بالأسواق السوداء. الديستوبيا هي اللحظة التي يطبَّع فيها اللامعنى كأداة حكم.
راية التكنوصهيونية ترتفع فوق جثة المستقبل، فما العمل؟، أحمد ناجي (27 نيسان 2025)
رجال الأعمال الذين يقفون خلف هذه المشاريع ليسوا مجرد أثرياء يراكمون المال، بل هم صُنّاع ثروات قادمة أساسًا من الإقطاع الرقمي. تراهم من حولك: في الشاشة التي تقرأ منها هذا المقال، وفي التطبيق الذي ستستخدمه لمشاركته مع من يهمك أمره. هم من يملكون الخوادم التي تختزن كل صورة ورسالة تبادلتها مع أمك أو حبيبتك. وبوسعهم استخدام الأجهزة المحيطة بك بطرقٍ لا تخطر لك على بال— كما حدث مع تفجير أجهزة «البيجير» قبل عام في لبنان. هؤلاء لا يكشفون عن قدراتهم التقنية إلا في أضيق الحدود؛ مثلما اكتشفنا مؤخرًا أن شبكات الإنترنت اللاسلكية «واي فاي» يمكن تحويلها إلى كاميرات وسونار لتعقب حركة البشر في الغرفة.
فاشية جديدة لا تزال بكيسها، لا تصرخ في الميادين.
لا ترتدي خوذة وتشد حزامها الجلدي.
تأتي مبتسمة، في صورة تطبيق مجاني، في رائحة وردة على شكل ناطحة سحاب في مدينة مستقبلية، في نصيحة ودودة من رجل يرتدي قميصًا أبيض ونظارات خالية من الخوف، يتحدث عن التعافي والنجاة عبر أكل الجزر بانتظام، وممارسة اليوغا والتأمل في وضع الفلقسة الساعة الرابعة فجراً.
لا رايات.
لا شعارات.
لا طلقات في الهواء.
فقط «سياسة خصوصية» توافق عليها وأنت تتثاءب.
الخيال «الديستوبي» لم يعد مجرّد خيال. لم يكن أصلًا مجرّد خيال أدبي، بل تكثيف للمخاوف الكامنة في أي نظام سيطرة، وللريبة من التقنية. هو ما نراه عندما نأخذ مسافةً من الواقع المباشر لنعاين نزعاته ومنطقه الكامن. عن بُعد، تبدو الديستوبيا واقع منطقتنا:
- جزر من الامتيازات الهائلة، ممنوع فيها الاختلاف السياسي، تدار بمزيج من التقنية والأحلام الفارغة.
- جزر محاطة بحقول من القتل والتجويع والتهجير، لم يعد فيها أي ادعاء لأي إنسانية.
- مشاريع تساق عن بعد لتطوير عقاري ومناطق صناعية فوق أجساد الأحياء.
- أدوات مراقبة يومية، تتحوّل بين الحين والآخر إلى أدوات قتل من فوق، أو من تحت، على يد فرق قتل وروبويات متفجرة.
الخيال ليس ما هو خارج الواقع. الخيال هو قدرة النظر إلى الواقع من المسافة المطلوبة لرؤية منطقه. الخيال قد يكون ما هو مطلوب لتصديق الواقع.
الهزيمة التي تخبّئ عالمًا جديدًا
يدور السجال الحالي، على الأقل في لبنان، على حدود الهزيمة العسكرية ومعانيها السياسية. الهزيمة التي وقعت ليست عسكرية وحسب، ولن يتمّ التعامل معها كمجرّد اختراق أمني أو سقطة ميدانية، مهما صاح ممثّلو حزب الله الجدد. الهزيمة كانت إعلانًا لعالم جديد، ديستوبي، بات فيه التفوّق التقني شاسعاً لدرجة إفقاد ترسانة حزب الله صلاحيتها الميدانية، حتى قبل تسليمها أو نزعها. فالسجال حول السلاح لم يعد نقاشًا حول فعاليّته العسكرية. بات مجرّد تفاوض حول رمزيّة الهزيمة، يخاض تحت سقف الدرونز وعلى وطأة الروبويات المتفجرة والاغتيالات من الجو وزيارات المبعوثين الأجانب.
سماجة الاستعمار
قد لا يكون هناك مؤشّر عن هذا العالم الجديد إلّا سماجة ممثِّلي هذا العالم، الذين لا يخفون استعلاء المنتصر في زياراتهم. سمسار عقاري وملكة جمال في استضافة مموّل الأوبرا الإسرائيلية والطفل المدلّل للقطاع المصرفي، عشاء فاخر في مطعم جنود الرب، زيارة عند حلّاق تتحوّل إلى حدث إعلامي، موفد أميركي يوبّخ الصحافيين بعبارات تعود إلى أيام الاستعمار، نتنياهو من ورائهم يبدي استعداده لدعم لبنان في جهوده لنزع سلاح حزب الله. مشاهد يراد منها الاستفزاز، كما تعودنا عليها على يد الترامبية الصاعدة في العالم، تبحث عن الإهانة بعد الهزيمة، الإهانة التي تثبّت الهزيمة في عقل هذه الفاشية الصاعدة، لكنّها أيضاً الإهانة التي تؤسّس لحروب أهلية عندنا.
حزب الله بات خارج المعادلة، ولا أسفَ عليه. لكنّه ليس وحده مَن تمّ القضاء عليه، ليس وحده مَن لم يعُد له مكان في هذا العالم الجديد. فالاعتراض في المنطقة، في هذا العالم الجديد، بات مستحيلًا، سواء أكان ليبراليًا أم إسلاميًا، سلميًا أم مقاومًا. الدول التي شهدت ثورات باتت اليوم تقبع تحت أنظمة قمعية من دون أي أفق لمعارضة داخلية، والدول التي «قاومت» تجد نفسها مدمّرة. وما من مشروع معارض جديد في العالم العربي اليوم، قد يعيد تعريف الاعتراض على الوضع القائم. عقود من تطويع المعارضات وشرائها وقمعها، أعطت نتيجتها ومهدّت الطريق للدمار الحالي. في العالم الجديد، ليس هناك من اعتراض، أي اعتراض.
أيقونة السلاح
لا مكان للاعتراض، ولا لسلاح بات في موقع غريب، متبخّر، أقرب إلى شبح أو أيقونة، قدراته في وجوده الروحاني. فالسلاح، حسب أدبيات حزب الله، لم يكن يومًا مجرّد ترسانة عسكرية. لطالما كانت فعاليته الميدانية مرتبطةً بعدد من الشروط، دفعنا جميعًا ثمنها. فهو كان شبكات اتصالات وسيطرة على المعابر، وهما بأهميّة السلاح كما قال يومًا نصرالله، ما تطلّب اجتياحاً لبيروت دفاعًا عنهما. وهو خطوط إمداد تمرّ بسوريا، ما تطلّب غزو سوريا والمشاركة بإبادة شعبها حمايةً لهذا الإمداد. وهو «بيئة المقاومة»، ما تطلّب تسييج الطائفة بالعنف لمنع أيّ اختراق والسيطرة على التمثيل السياسي لها. وهو نظام سياسي يتطلب حلفاء وشلّ الحركة السياسية من أجل فرض رئيس للجمهورية. وهو نظام اقتصادي تطلب قمع التظاهرات، وهو تحقيق المرفأ والتهديد بقبع المحقق العدلي. هذا كله كان السلاح، ومن دونه، لا يعدو السلاح كونه مجموعات من القمصان السود، دورها الوحيد داخلي. وهذا كله زال، زال، ليبقى السلاح يتيمًا في مخازنه، دلالة على قوّةٍ كانت، وليس على مشروع قابل للحياة، سلاح طائفة بعدما كان سلاح محور.
الهزيمة عندما تأخذ شكل أمين عام
لم يكن نعيم قاسم مدعوًّا إلى مائدة العشاء، فاقتحم النهارَ الأميركيَّ الطويل من خلال إطلالة أكّدت أنّه بات خارج السياق. فخطابه ثبّت روحانية هذا السلاح، وخروجه من الميدان. فهذا السلاح هو روحنا وشرفنا وأرضنا وكرامتنا ومستقبل أطفالنا، ومن أراد أن ينزعه منّا يعني أنه يريد أن ينزع الروح منّا. لكنّ هذه الروح لا فائدة عسكرية لها. حسب كلامه، المقاومة تواجه العدوان ولا تمنعه. لم نعد بعالم توازن الرعب والانتصارات. مجرّد مواجهات بأقصى الأحوال. ثمّ قدّم أمين عام الهزيمة خارطة طريق، خلاصتها أنّ لا دور للمقاومة: أخرجوا العدو من أرضنا وأوقفوا العدوان وأفرجوا عن الأسرى وابدأوا الإعمار ثم نناقش الاستراتيجية الدفاعية. فإذا نجحت الحكومة في إتمام كل هذا، لا دور للمقاومة أو لا لاستراتيجية دفاعية. وإن لم يكن هذا كافيًا لجعل الإطلالة خارج السياق، هناك دائمًا ثورة تشرين والـNGOs ليستخدمهما ككبش محرقة.
السلاح بات أيقونة، يتمّ التداول به على شبكات التواصل الاجتماعي، وكأنّه مسألة شرف أو روح. لكنّه خرج من منطق الميدان. وهنا يلتقي دفاع حزب الله مع بعض تنظيرات يساريّة في الدفاع عن «السلاح من أجل السلاح» غير آبهين بدوره العسكري، مخوِّنين كل من يشكّك بجدوى هذا السلاح بعد كل ما جرى. فالدفاع اليوم عن السلاح ليس دفاعًا عن مقاومة ما، لم تعد موجودة. بات، بأحسن الأحوال، جزءاً من تفاوض طائفي داخلي، و بأسوأ الأحوال، عنواناً آخر للهزيمة، دفاعاً بائداً عن سلاح بائد.
لا تكابر على هذا العالم الجديد. هو عالم أنتجته الهزيمة، وقباحة النظام السابق. لكنّ هذا لا يلغي قباحة المستقبل، وضرورة إعادة ابتكار فكرة المقاومة والاعتراض. لكنّ هذا لا يبدأ من محاولة التمسّك بالماضي، بل من التحديق بمعالم هذا العالم، مهما كان غريبًا أو قبيحًا.