تسليح البحر بعد القضاء على الأرض
في خطاب حالة الاتحاد أمام الكونغرس، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن اتجاه بلاده إلى إنشاء مرفأ عائم قبالة مدينة غزّة، ليكون المرفأ قناة أساسيّة لتلقي المساعدات في القطاع المُحاصر. وبعد الخطاب ببضعة أيام، انطلقت أوّل سفينة تجريبيّة من ميناء لارنكا باتجاه مدينة غزّة، للتحضير من أجل إطلاق خط بحري بين قبرص والقطاع.
هكذا بات البحر الساحة الجديدة لتنظيم الإبادة بعد سياسة الأرض المحروقة التي نفّذتها إسرائيل.
غموض حول المشاريع البحرية
جاء إعلان بايدن ومن ثم إنطلاق السفينة بوصفهما استعراضاً إنسانياً، في ظل صعود الاعتراض حول الحرب وتزايد الاعتراض على الإدارة الأميركية.
مع ذلك، تلقّف الرأي العام العربي هذا الإعلان بمزيج من الحذر والريبة، إذ لم يتضح من خطاب بايدن آليّات عمل هذا المرفأ وإدارته وجميع الأدوار التي سيؤدّيها. كما لم تتضح علاقته بالمشاريع الأميركيّة بخصوص ما بات يعرف بـ«اليوم التالي بعد حماس»، في إشارة إلى هويّة الجهة التي ستمسك بإدارة القطاع في المستقبل. وعلى أي حال، وباستثناء بعض التصريحات والشعارات، لم يوحِ أداء الإدارة الأميركيّة منذ البداية بالكثير من الحرص على الوضع الإنساني في القطاع.
كذلك لم يتضح الكثير بعد بخصوص أوّل سفينة تجريبيّة، والتي تديرها منظمة «وورلد سنترال كيتشن». أعلن المنظمون أنفسهم أن مشروعهم يستهدف في النهاية إنشاء مسار شحن بحري دائم باتجاه القطاع، وهو ما يتكامل مع مشروع بايدن. وهذا ما يعني أنّ نفس الغموض يسود هذا المشروع.
إنسانية بطعم الحسابات الانتخابية
قد يكون سرّ التحوّل الإنساني للإدارة الأميركية في الحسابات الانتخابية الداخلية.
باتت إمكانية خسارة الرئيس بايدن أمام دونالد ترامب في الإنتخابات المقبلة احتمالاً جديّا. ويعود ذلك إلى عدد من الأسباب، من بينها أداؤه المخيّب تجاه جمهور شاب وازدياد الشرخ مع ناخبيه من أصول عربية بسبب موقفه المتواطئ مع الإبادة. تشير استطلاعات الرأي إلى أن الانتخابات المقبلة، كما السابقة، ستُحسَم بفارق ضئيل. وعلى الرغم من أن الناخبين الأميركيين العرب يشكلون كتلة انتخابية صغيرة نسبياً (حوالي 3 ملايين عربي أميركي)، فإنّهم يلعبون دورًا أساسيًا في تحديد نتيجة الانتخابات في بعض الولايات، كولايتَيْ ميشيغان وجورجيا. خلال انتخابات 2020، شكّل الصوت العربي في هاتين الولايتين عنصراً حاسماً ساهم في فوز بايدن بفارق ضئيل.
تغيّرت المعادلة اليوم، حيث باتت نسبة تأييد بايدن عند الأميركيين العرب الأدنى منذ بداية ولايته. فتحرّك الناخبون العرب، خاصة في ولاية ميشيغان، بقوة منذ الأيام الأولى للحرب للضغط على إدارة بايدن، وتصاعد الاعتراض على إدارته في هذه السنة الانتخابية. ساهم ذلك في دفع الإدارة الأميركية إلى دوزنة مواقفها تجاه حرب غزة، بدءاً من مطالبة نائبة الرئيس كامالا هاريس بوقف إطلاق النار لستة أسابيع وصولاً إلى إعلان بايدن عن إنشاء ميناء مؤقت قبالة شواطئ غزة.
إنسانية تخدم الإبادة
ربّما كانت هناك أسباب داخلية لهذا التحوّل الإنساني، لكنّ تفاصيل المشاريع المقترحة تدلّ على مغزى إسرائيلي من ورائها.
فبعد إعلان إقامة مرفأ على شواطئ مدينة غزّة، كشفت صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيليّة أن هذا المشروع لم يكن فكرة بايدن بالفعل، بل كان فكرة طرحها نتنياهو في اتصال هاتفي معه لتحقيق عدّة مكاسب إسرائيليّة.
- فبمجرّد إمساك إسرائيل بالمنفذ البحري الجديد، كبديل لإدخال المساعدات عبر معبر رفح الحدودي، ستكون إسرائيل قد أمسكت أيضاً بشريان الحياة الوحيد في القطاع الجائع، وهو ما سيخوّلها لاحقًا تحديد الجهة المسؤولة محليًا عن إطعام الفلسطينيين، وبالتالي شكل إدارة القطاع الجديد.
- وبتنظيمها عمليّة توزيع المساعدات الإنسانيّة، من خلال المنفذ البحري، ستكون إسرائيل قد أمسكت بورقة بالغة الأهميّة في وجه الضغوط الدوليّة التي تطالبها بفتح المجال أمام ورود المساعدات الإنسانيّة إلى القطاع المحاصر.
- سيسمح المنفذ البحري لإسرائيل أيضاً باستكمال عدوانها في القطاع، بإجراء العمليّة العسكريّة المنتظرة في منطقة رفح، بعد أن تكون قد وجدت بديلًا عن المعبر البرّي في تلك المنطقة.
- كما سيساهم المعبر البحري بتخطّي عقبة رفض النظام المصري استقبال اللاجئين الفلسطينيين في صحراء سيناء، إذ قد يسمح المعبر الجديد بفتح الباب أمام ترحيل الفلسطينيين من القطاع تحت ضغط النار والجوع.
بالتوازي مع إجراء أولى الرحلات التجريبيّة لهذا الخط البحري، كشفت الصحافة الإسرائيليّة وجود أبعاد أخرى لمشروع تشغيل مرفأ لارنكا من قبل إسرائيل مثل: استخدامه كمرفأ طوارئ لتلقي السلع الواردة إلى ميناء حيفا في حال توسّع الحرب مع حزب الله، بهدف إعادة توزيع هذه الواردات بالتدريج إلى مرافئ أخرى أصغر حجمًا. كما تملك إسرائيل مشاريع أخرى طموحة لاستخدام مرفأ لارنكا كمحطة وسيطة، تسمح بربط موانئها بموانئ أوروبا.
صناعة كائن ما بين الحياة والموت
أيّاً تكن الأسباب وراء تلك المشاريع، تبدو نتيجتها الأساسية صناعة كائنات هزيلة، تعيش في هذا المكان ما بين الحياة والموت، يتمّ إطعامها لكي تبقى على قيد الحياة كفريسة لطائرات الاحتلال. هناك منطقة بهذا العالم، محاصرة، تقصف يوميًا، بات لها ممرات إنسانية لكي لا تقضي المجاعة على سكّانها قبل أن يُقصَفوا. إنّها، ربّما، الدرجة القصوى من سحب صفة الإنسانية عن سكّان غزّة وتحويلهم إلى مجرّد أجساد في مختبر «الإبادة الإنسانية». فالإبادة ليست قتل الضحية وحسب، إنّها أيضًا تحويل الأحياء إلى مجرّد أجساد في غرفة انتظارٍ باتت تشكّل حياتهم الهزيلة.