يوميات
سلسلة
اكتئاب
جنان نون

الانهيارُ على بُعد حائط

10 نيسان 2021

في سعيٍ بائس للتأقلم، اشتريت سدّادات تخفّف عنّي ضجيج الكائنات، أحشرها في أذنيّ فلا أسمع غير صرير أسناني وأعضائي، فألعن نبض الحياة في جسدي وأخلع السدّادات، أفتح الشباك وأتشبّع من الأصوات حتى الانفجار... أي البكاء حتّى التشتّت. لستُ أهذي، لكنّ لهاثي محشور في جسدي المعطّل من محيطه، في عالم من التشوّش التام، أواجه بالتخبّط والتفكّر صخبَ الجدران وكثافة الحواس والأحاسيس التي يتعذر عليّ فهمها.

عُطْلٌ بلا أدب ولا مال، مثل طفلة عاجزة في عالم الكبار، أقدّم عشائي للقطط فتقبل شفتي ولا تعضّ لساني. لكن مؤخّرًا، ولأسباب لا علاقة لها بعالم الحيوان، ازداد لساني ثقلًا، ونُكاته حدّة، وصرتُ أخشى المجازفة في قول ما لا طائل من قوله. فمنذ أن عقدتُ معالجة رهابي من الكلام الحاف، صرتُ أكثر عرضة لسقطات اللسان والبكاء الفجائي.

لطالما فضّلتُ اللهو في السابق، لكن يحدث في أشدّ الأوقات حاجة للجدّ أن تخذلني ملامح وجهي، ويتنافر أسلوبي مع قصدي وتختلط الحروف، فيلوح في الأفق السحيق التباس فهم أزلي، ويهبط ضباب باردٌ يغشى الرؤيا، عثرة لغويّة تنزلق إلى كذبة، إمّا أن أصدقها أو أسحبها عائدة إلى فمي، وأحبس نَفَسي وأدعو أن أختفي، بسحر ساحر، بلا إرادة للحياة أو الموت. أن أكون أو لا أكون، لا فرق، فكلّ ما يطفو على سطحي طفرات مما يمكن أن أكون. أعلّق جسدي في زاوية الحائط رأسًا على عقب وأصير شرنقة تتأرجح وتخبط رأسها وتكرّر خذلان ذاكرتها؛ لن أكون دودة تتحوّل ولا فراشة تبيض.

مشانق الجحيم موضوعةٌ أمام أعيننا كمثال... لذا إن استخدم الناس ذاكرتهم حتمًا لن يُخطئوا. Giordano da Pisa

أجد نفسي مؤخّرًا عالقةً في ارتباك مزمن، حالة من اللايقين تجاه كل شيء، تزيد عبثية الحياة اليوميّة حالتي سوءًا، إدراكي للوقت مشوّه، ولا أثق دومًا بقدرتي على التوازن، وفقدتُ منذ أشهر ثقتي بضوء البلديّة لمعرفة الكهرباء من الموتير. نحن ضحايا بدع تضليليّة بريئة في ظاهرها لكن لا تفعل إلا أن تزيد الحياة تعقيدًا. لم أعد أعرف كم مرة أنام وأصحو على صرير جرّار الدكان وصوت الجار الفظّ يصيح مع موسيقى قناني الغاز «عبدُوْووو… تنين طربوش». يستفزّني كلّ حرف ناطق، فألعن الله والجار وعبده. أبلع لعناتي وأسأل الغفران من قسوة كلماتي، وأروح أدندنها في سرّي لتخفيف وقعها، لأن زئيري في الوادي السحيق لا يجرح إلا حلقي.

أتوسّل الأحياء والأموات أن يتركوني بحالي، لكن أشباحهم تطاردني بألسنة مشتعلة، تلسع أذني، عويلها البائس وضحكاتها الغليظة تقبض هذياني بين النوم والصحو. وكرش الجار يكبر كل يوم، يرمي من بلكونه السلّة ويعود ليرفعها إليه مجدّدًا محمّلة بالطرابيش، ويسأل زوزو يوميًّا عن سعر الطربوش. يخرج إلى البلكون بطلباته كلّما سمع قرقعة الحديد الثقيل، يكرّر ويبدّل نغماته حتى يعيره أحد انتباهاً. هذا الجار الحشّور يتطفّل على أحلامي. كذلك يحصل أن تتداخل معارك الآخرين مع معاركي الداخلية، وتنصهر جميعها داخل شعلة واحدة كبيرة من المشاعر الملتبسة: كرة نار عصيّة على النطق… لا أعرف ما بي بالضبط، تلحّ عليّ حاجةٌ للاختفاء أحيانًا لمّا تظل تطاردني أصوات الآخرين حتى المخدّة، فتصير كلّ محاولات النوم مذلّة: إمّا النوم أو يغمى عليّ… واستيقظ على صراخ الجيران راحوا يتقاتلون فيما بينهم من إحباطهم.

لم أتأقلم بعد، لم أتعوّد حضور الجيران العابر للجدران، صراخ الآباء ما زال يؤرقني، وبكاء الأولاد يثير قلقي. أصرخ وأهدّد الله أن يُخرسهم الآن أو أتولّى أنا المهمّة، أحمل المقدح وأهمّ بالصعود ممثّلة مشهد اقتحام عنيف، كوميديا سوداء لتخفيف القسوة، ثمّ أضحك من نفسي وأضع المقدح أرضًا وألعن آباء وأمهات الكوكب، ألوم نفسي وخفّة نومي وحدّة سمعي والعمار القديم والشقق نصف المفروشة. ربما بالغتُ في الانفعال، ترانا تعودنا محاربة النظام بأسلحته حتى صارت كلّ أفعالنا ردود فعل مرتبكة، ونروح نعوّض عار خيباتنا بمظلوميّة تبيح «القوّة بأيّ ثمن»، يرافقنا شعور مزمن بالذنب، ناتج عن «دادي ايشوز» لا تزال تبحث عن صورة الأب القاسي الحاني في آن واحد، وتعيد تكرارها. هذا ما يُعرَف بسوء التأقلم (Maladaptation).

تدوّي صيحة واحدة، أعجب هذه المرّة لأنّ الصوت أبعد، لم يخفّ سمعي لكن الانهيار ليلة الأحد بدأ في الشارع الآخر. أفتح النافذة وتُطْلَقُ الصيحة التالية. وأنا لم أعتد بعد هبوط الليل في هذه المدينة الموبوءة، تكفي صيحة واحدة للانسلال خارج العالم، أفتح الشباك وأجلس على حافة هاوية وطن تالفٍ حتى النخاع، أتأرجح بين الجنون والتماهي، بين الجمود والنموّ. أراقب مسرحيات أهوال الآحاد والأعياد تزداد رعبًا مع مرور الوقت ويتدنّى فيها منسوب الكوميديا، أترقّب من شبابيك المطابخ ضجيج التحضير للمعارك، لما تُضرم النار ويقلّب الفحم ويتبّل اللحم، وتضرب المقالي بالمناقل وتغشى المنازل غيمة مظلمة.

الشمس أكثر إشراقًا على البلاكين المقابلة، ويحدث أنّه مع سقوط الشمس تتساقط الأقنعة ويبدأ مسلسل الانهيار. لا غرابة في كلّ ذلك. أتذكر هستيريا الغداء المقدّس في منزل جدّي أيام الآحاد، وكلّ ما أخد طابع المقدّس يصير لعنة، لعنة منتصف النهار. ظننتُ أن جينات الطَّرَش المبكر تسير في أسرتنا، وأنّ كلّ الكبار يعانون من ضعفٍ في السمع ويلازمهم إحساس مزمن بالضيق اللامتناهي، حالة عصبيّة لم أعرف تفسيرها. أمّا جدّي، فراقبته يزداد ضيقًا في مقعده كلّ أحد، يتوسّط المائدة كمن يؤدّي حكمًا أبديًّا بالشقاء، يشرد في قدره ويمضغ على مهل مطأطأ الرأس، بالكاد يأكل قدرته على الهضم حتى قتله سرطان القولون في أواخر التسعين.

بعد الغداء، يجلس جدي في زاوية الغرفة مواصلًا «إنعاش» نفسه بنبريش الأركيلة. ينظر بعيدًا متجهّمًا، يرتخي مذهولاً حيناً، أو يكشّر عن شفته نافخًا ضحكة هازئة لا يهمّه شرحها. يبدو مستسلمًا إلى أن يحتدّ لغوهم ويعلو، فيزجر بهم. وأنا أيضًا أخذتُ حقيّ في التأنيب لمّا باغتني مرة قائلًا: «الضحك بلا سبب من قلّة الأدب». يومها انعقد لساني، ولم ينتظر جدّي منّي ردًّا، لكنّي كلّما أتذكّر ذاك الحديث الوحيد معه، والذي لم يقع، أختنق ضيقًا. أخبره ما أردتُ قوله: أنّ الضحك متنفّس الصغار، مثل الأركيلة له، وأني لا أفهم جملة غضب الكبار، لكنّي لمّا أحبس أنفاسي تظاهرًا بالموت، تفلت مني ضحكة لا أتحكّم بقوّتها وتفضح تنكّري. ولأسباب عديدة، أولها قلّة الحيلة، أضحك. لأن اللي استحوا فطسوا.

 

سلسلة

اكتئاب


آخر الأخبار

مواد إضافيّة
12 غارة على الضاحية الجنوبية لبيروت
5 تُهم ضدّ نتنياهو وغالانت 
الاتحاد الأوروبي: قرار المحكمة الجنائية مُلزِم لكلّ دول الاتحاد
مقتل باحث إسرائيلي كان يبحث عن «أرض إسرائيل» في جنوب لبنان