أطلّ علينا النائب ميشال ضاهر قبل ثلاثة أسابيع، على إحدى الشاشات، ليتباهى بأن لبنان أصبح بلداً رخيصاً. استند في ذلك إلى كلفة عشائه مع أصحابه، والتي لم تتجاوز العشرين دولاراً على الشخص، نظراً لتدهور سعر الصرف. فكيف يجد النائب البلد «رخيصاً»، بينما أصبح نصف سكانه تقريباً تحت خطّ الفقر استناداً للأسعار عينها؟
للإجابة على هذا السؤال، لا بدّ من الحديث عن التضخّم لا كارتفاع للأسعار ولا كانهيار في سعر الصرف، بل كمؤشّر اقتصاديّ ينبغي تحديد المسؤوليّات بشأن ارتفاعه. فالتضخّم ليس ظاهرةً طبيعيّة تحدث من تلقاء نفسها، نستيقظ فجأةً لنجدها تعيش بيننا.
في لبنان، يبدو العامل الأكثر تأثيراً هو انهيار منظومة كاملة متكاملة كانت تستند إلى استقطاب الدولار للمحافظة على سعر صرف مضخّم للّيرة اللبنانية، وسقوط قدرة هذا النموذج على استقطاب أو ضخّ الدولار في السوق وبالتالي السيطرة على سعر صرف الليرة اللبنانية. وفي بلد يستورد 80٪ من حاجاته، فإن سعر صرف الليرة في السوق والسوق السوداء هو الذي يحدّد أسعار البضائع، بمعزل عن محاولات دعم بعض البضائع، والذي لن يدوم كثيراً لأنّ تمويل هذا الدعم يتمّ من احتياطيّ البنك المركزي الذي يتضاءل يوماً بعد يوم.
ولكنّ العامل الأهمّ هو السياسات النقدية المتّبعة لمعالجة هذه الأزمة. ذلك أنّ العرض النقدي المتزايد، أي طباعة العملة، خلال الركود الاقتصادي هو عامل أساسي لارتفاع الأسعار وزيادة نسب التضخّم. ومع افتقاد القدرة على تمويل الإنفاق الحكومي من الضرائب وسط الأزمة الحادّة، وتضاؤل القدرة على التمويل الخارجي، يتمّ اللجوء إلى تمويل الإنفاق عبر طباعة العملة التي تنتج عنها مخاطر الدخول في حيّز التضخّم المفرِط.
بمعنى آخر، عندما يلجأ المصرف المركزي لطباعة العملة لتمويل الإنفاق، تكون زيادة هذه العملة غير مدعومة بزيادة في إنتاج السلع والخدمات، أي زيادة في نموّ الناتج المحلي. فتلجأ الشركات إلى رفع الأسعار لزيادة الأرباح والبقاء قيد الحياة. ومع تدهور الاقتصاد بشكل أكبر، تفرض الشركات رسومًا أكبر بحسب توقّعاتها للمزيد من التضخّم وللمزيد من الانهيار في سعر الصرف، أو تغلق أبوابها تماماً. ويدفع المستهلكون أكثر، ويطبع البنك المركزي المزيد من الأموال، ممّا يؤدّي إلى حلقة مفرغة وتضخّم مفرط.
ولعلّ مشروع توزيع المساعدات النقدية بحوالي 1.2 مليار، أي 400,000 ليرة لكل عائلة، هو خير مثال على ذلك. فهو مموَّل من طباعة العملة، فتنهال الدولة على فقرائها بأموال تفقد قيمتها بشكل يومي. كذلك مع انهيار الثقة بالقطاع المصرفي، اختار المصرف المركزي طباعة العملة لدفع أموال المودعين بالليرة وخفض مطلوبات القطاع المصرفي بالدولار، ممّا تسبّب بالمزيد من التدهور في سعر الصرف ضمن حلقة التضخّم نفسها.
لكن، وكما تذكّرنا لهجة النائب ميشال ضاهر، ينبغي ألا نقع في وهم أنّ التضخّم يصيب الجميع. فمن النتائج الكارثية للتضخّم، إعادة توزيع الثروة في بلد يعاني أصلاً من لامساواة هائلة.
فمع التضخّم، تزداد فجوات الدخل، خصوصاً وسط غياب القدرة على تصحيح الأجور في المدى القريب، وسط تقلّص المدّخرات وتبخّر المعاشات التقاعدية لذوي الدخل المنخفض والمدفوع بالليرة. وفي المقابل، تتّجه الطبقات الميسورة لزيادة أصولها مع تدهور سعر الصرف وفقدانها القدرة على تحرير أموالها إلا عبر شراء الأصول.
من هذا المنطلق، يمكننا أن ننظر إلى التضخّم كضريبة تُدفَع كسائر الضرائب، وهي كمعظم الضرائب في هذا البلد، تُنتج المزيد من اللامساواة وإعادة توزيع للثروة.
تحتاج معالجة مسار التضخّم هذا إلى سياسات نقدية ومالية تتناسب وأبعاد هذه الأزمة التاريخية. سياسات لا تنفع معها التوافقيّة السياسية، ولا قدرةَ لحكومة «التكنوقراط» الحالية على فرضها. فرئيس الحكومة منهك بمحاربة شتّى أنواع المؤامرات الدائرة في ذهنه، ووزير الاقتصاد ممتعض من عدم امتنان الشعب لدعمه بعض السلع، ووزيرة العمل منهمكة بالتضييق على العمّال الأجانب كسبب أساسي للبطالة اللبنانية، وحاكم المصرف المركزي مصرّ على هندسة خسائر القطاع المصرفي وتحرير الودائع بالعملة الوطنية.
يتجلّى الصراع مع هذه المنظومة اليوم في صورة بسيطة: صورة نائب يتباهى برخص البلد، ويدقّ في الآن نفسه ناقوس الخطر حول عدم قدرته على دفع معاشات موظفيه إذا ما استمرّت الأزمة. صورة نائب يسترخص وجبته بينما بات المعاش الشهري لموظّفيه المهدّدين بالطرد بأيّ لحظة، يساوي كلفة عشاء هذا النائب الرخيص.