قضية الأسبوع طوفان الأقصى
ميغافون ㅤ

الطحين سلاحاً

للقتل ولتفكيك إدارة القطاع

23 آذار 2024

مسار اغتيال الاحتلال لضبّاط الشرطة الثلاثة شمال غزّة، في 18 و19 آذار 2024، بدأ فعلياً في 10 تشرين الأوّل 2023، بعد 3 أيّام على طوفان الأقصى، مع التصريح الشهير لوزير الدفاع يوآف غالانت: نحن نحارب حيوانات بشرية.

الإبادة ليست فورة غضب، بل تمّ تخطيطها ببرودة من يجلس خلف مكتبٍ مُكيَّف في بقعةٍ ما في تل-أبيب، ويفكّر: كيف أفتح حدود الإبادة؟


الحصار

في الخطاب الشهير إيّاه، يأمر وزير الدفاع بإطلاق الحصار الكلّي على غزّة: لا كهرباء، لا ماء، لا طعام. أيّامٌ قليلة، واتّضح أنّ السيسي أيضاً باع روحه للإبادة، وشارك بالحصار. أسابيع قليلة، وشارك المستوطنون بجهود جيشهم، فقطعوا الطرقات أمام المعابر الإسرائيلية.

ما كان يدخل إلى القطاع المحاصَر أصلاً، قبل الحرب، وهو 500 شاحنة من الموادّ المختلفة يومياً، باتّ أقلّ من 100 شاحنة يومياً. هذا على صعيد القطاع ككلّ، والرقم يُقارب الصفر عند الكلام عن شمال القطاع.

الحصار ركنٌ من أركان الإبادة.


التجويع

عند هذا الحدّ، وبعد أسابيع، بدأ الكلام عن «جوع»، فـ«مجاعة» صُوّبتَ على أنّها «تجويع»؛ بل «تجويع من صنيعة الإنسان»، تحديداً إسرائيل.

لأسابيع، شاهدنا الغزّاويّين يخترعون «خبزاً»، من كل شيء إلّا الطحين، ثم انقطعت هذه الموادّ، ثم اعتمدوا على الخبّيزة، ثم على الأعشاب التي لا تؤكَل. كانت المجاعة قادمة لا محالة. بالتوازي مع ذلك، كانت إسرائيل تستهدف، بين الحين والآخر، قوافل مساعدات، مثلها مثل أي هدف عسكري آخر.

حصار، مجاعة، ثم استشهاد 27 فلسطينياً على الأقلّ من الجوع والعطش. عند هذا الحدّ لم يعد الجوع عارضاً من عوارض الحرب، بل أصبح بنفسه سلاحَ حرب، قائماً بذاته، ومع ذلك، «لم يلاحظ» القيّمون على الإبادة الأمر.

التجويع ركنٌ من أركان الإبادة.


مجزرة الطحين

ربّما لم يلاحظوا لأنّ الموت جوعاً لا يأتي مع ألوان، ولا مع صراخ. يأتي الموت جوعاً باهتاً، واهناً، بصمت. لكنّ العقل الإبادي خطرت له فكرة جديدة: بتاريخ 28 شباط، استهدفت الدبّابات الإسرائيلية تجمّعاً لاستلام الطحين عند دوار الكويت، وقتلت أكثر من 70. صار لون الطحين أحمر، وقد تكرّرت هذه الجريمة، إلى أن صار اسمه «دوار الموت» مع استشهاد أكثر من 400 فلسطيني بسبب استلامهم المساعدات.

أن تستشهد «بسبب» استلام المساعدات، نوعٌ جديد من جرائم الحرب، تماماً مثل أن تسمّي مجزرةً «مجزرة الطحين»، بعد عقود من تسمية المجازر بحسب مكان وقوعها. 

لكنّ هذا ليس كلّ شيء.


إدارة الجوع لإدارة القطاع

بهذه المجزرة، وبتكرارها، أسقطت إسرائيل فكرة المساعدات البرّية، لكنّها سمحت بالمقابل بمهزلة الإنزالات الجويّة، والتي قتلت بدورها مواطنين آخرين، بأشكالٍ أكثر ديستوبيةً. وبعد أيّام، أعلنت أميركا نيّتها تدشين ميناء «مؤقّت» لإيصال المساعدات بحراً.

لكنّ المعابر البرّية موجودة، والمطلوب فتحها وحسب. فإذاً ما الحكمة من الموضوع؟

باعتراف وزير الدفاع الإسرائيلي نفسه، فإنّ هذا النهج يضعّف سلطة حماس على الأرض، كما يستثني وكالة الأونروا من توزيع المساعدات. تُنشئ إسرائيل إذاً «هيئات محلّية»، متعاونة معها ومتصارعة مع حماس، لتسليمها المساعدات، كمدخلٍ لاختراع سلطة جديدة داخل القطاع. أو، تُرمى هذه المساعدات مباشرةً إلى المواطنين ليتهافتوا عليها، فتزداد الفوضى.

التجويع ركنٌ من أركان خطّة إسرائيل لما بعد الحرب.


تفكيك إدارة القطاع الحالية

أرست إسرائيل معادلةً تقول أنّ أي كيس طحين من خارج هذه السكّة، ثمنه دمّ.

بتاريخ 16 آذار 2024، وبشكلٍ استثنائي، تمكّنت قافلةٌ تضمّ 18 شاحنة طحين من بلوغ شمال غزّة بشكلٍ آمن. كما وزّع الطحين بشكلٍ منظّم للغاية، بما يثير العجب: بعد 5 أشهر من الإبادة، و4 أشهر من التجويع، كيف تمكّنوا من إدارة هذه البقعة بهذا الشكل؟

أزعج السؤال الاحتلال، وكان حلّه بسيطاً: إلغاء الإجابة.

بعد ساعات على توزيع الطحين شمالاً (بكمّية لا تكفي لصناعة نصف رغيفٍ لكل مواطن)، أطلقت إسرائيل حملة تصفية كل من شارك بتأمين وصول هذه القوافل وتوزيعها: 3 ضبّاط من شرطة غزّة، والعشرات من عناصر الشرطة أو من الأفراد الذين نظّموا، بالتعاون مع العشائر، لجان شعبية لإيصال المساعدات.

بعد سلسلة الاغتيالات هذه، بدت قافلة المساعدات كما لو كانت طعماً. أراد الاحتلال أن يفحص درجة الإدارة الموجودة بشمال القطاع، وإذ وجد أنّها ما زالت متماسكة، صفّى رؤوسها. تزامن ذلك مع فشل مساعيه باستمالة العشائر إلى جانبه، لإدارة القطاع في مرحلة ما بعد الحرب.


الطعام لإمساك غزّة في مرحلة «ما بعد حماس»

يوم الخميس الماضي، نقلت صحيفة «وول ستريت» عن مسؤولين عرب وإسرائيليين وجود محادثات ما بين إسرائيل من جهة، ومصر والإمارات العربيّة المتحدة والأردن من جهة أخرى، لتأمين دعم إقليمي في عمليّة تجنيد قادة فلسطينيين ورجال أعمال غير مرتبطين بحركة حماس، لاستلام ملف توزيع المساعدات. وبحسب مصادر الصحيفة، ستمهّد هذه العمليّة إلى تمكين المسؤولين عن توزيع المساعدات من استلام سلطة الحكم في غزّة، في مرحلة «ما بعد حماس»، أي في اليوم التالي لنهاية الحرب.

الجوع إذًا، وتهشيم سلاسل توريد المساعدات، لم يعد مجرّد أداة لإضعاف الإدارة المحليّة القائمة، بل لاستحداث سلطة جديدة بديلة. وأداة فرض هذه السلطة لن يكون سوى امتلاكها شريان الحياة الوحيد في القطاع، أي سبل توريد الغذاء لسكّان غزّة الجائعين. عندها فقط، ستتمكّن «الدول العربيّة الثريّة»، بحسب ما نقلت الصحيفة عن مصادرها، من تمويل عمليّة إنشاء قوى أمن بديلة وجديدة، وفقًا لرؤيتها لمستقبل القطاع.


بعدما كرّس الاحتلالُ الطحينَ سلاحاً للتجويع، كرّسه اليوم كسلاحٍ معادٍ لإدارة القطاع: كل من يحاول تأمينه للأهالي سوف يلقى حتفه. الإبادة ليست فقط فعل قتل وإلغاء، باتت اليوم منظومة حكم، تضع أسس نظام آت، يحكم من خلال التحكّم بأبسط مقومات الحياة، لكي تصنع كائنات ما بين الحياة والموت، أي مستقبل طويل من العنف والموت البطيء.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
ما هي الفصائل المُشاركة في عمليّة «ردع العدوان»؟
الراعي جمال صعب شهيدٌ جديدٌ للخروقات الإسرائيلية لوقف إطلاق النار 
قوّات الاحتلال تقتحم المستشفى التركي في طوباس
10 شهداء في العدوان الإسرائيلي على لبنان أمس الاثنين
معارك في دير الزور لطرد الميليشيات الإيرانيّة
81 شهيداً 304 مصابين منذ بداية عدوان الأسد وروسيا على إدلب وحلب