تحليل سوريا
عمّار ديّوب

العلمانية والديموقراطية والمساواة 

في استطلاع المؤشّر العربي في سوريا

17 أيلول 2025

ترتبط العلمانية في سوريا بالاتّجاه الحداثي عامّةً، الذي يؤكّد أنّ الدولة والسياسة والعلوم والثقافة والتعليم والنظر لقضايا الوجود يجب أن تكون وضعية وعقلانية وليس على أرضيّة الدين. أمّا الأخير، فهو شأن روحي وخلاصي وجماعاتي وخاصّ ومتمايز بين جماعة وأخرى. هذا التيار العلماني يتجاوز الفكر، فهو جزء من قيم العصر الحديث وجزء من العلاقات الرأسمالية، وبالتالي، هو مُتعيّن في كافّة أوجه الحياة المعاصِرة للسوريين. إذاً، هناك شقّ اقتصادي واجتماعي وعلمي لا يمكن تجاهله تجاه واقعية العلمانية. 


فصل الدين عن الدولة

أورَد المؤشّر الخاصّ بسوريا لهذا العام، مؤشّر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أرقاماً شديدة الغرابة إذا قارنّاها بالصورة الظاهرة لسوريا اليوم. فتشير نسب المؤشر إلى أن 57٪ من السوريين يفضّلون فصل الدين عن السياسة، (بينما يرفض الفصل 30٪) وهي نسبة تخالف أراءً مكرّسة تتحدّث عن أنّ المجال العام للسياسة أصبح تابعاً ومحتكراً للدين وللهويات الدينية. أمّا التيارات السياسية، فهي ووفقاً للمؤشّر: القومي 48٪، والليبرالي العلماني 38٪ والاشتراكي اليساري 24٪، بينما يقول الاتّجاه السائد بأنها سُحقت ولا بدّ من إعلان وفاتها. النُسب السابقة، تنقض الرؤية السائدة، والمفاجأة أنّ نسبة الذين يفضّلون تشكيل تياراً وطنيّاً ومن دون أيديولوجيا هي 62٪، وهي تشير إلى رفض كبير لكافّة أشكال الأيديولوجيا ولا سيّما الطائفية.

بات هناك بالعقود الأخيرة استبدال لمفاهيم الدولة العلمانية بالدولة المدنية بحجّة الواقعية والتصالح مع المجتمع من جهة، وبسبب ارتفاع صوت الإسلاميين والقوى الطائفية من جهة أخرى. كانت النسب المؤيّدة للدولة المدنية في المؤشّر وازنة، ووصلت إلى 42٪، بينما من يؤيّد الدينية 28٪. إن تأييد الدولة المدنية بشكل كبير يتّسق مع المؤيّدين لمسألة فصل الدين عن السياسة، وكذلك، مع الكتلة الراغبة بوجود تيارٍ وطنيٍّ عريض. المقصد هنا، إنه بات من الضروري العودة إلى المجتمع، وبغض النظر عن قدرته على تمثيل رؤاه في السياسة أو الفكر أو الثقافة، فهو يميل نحو الدولة المدنية/ العلمانية.


الديمقراطية

إن الأكثرية السورية تفضّل الديمقراطية، 61٪، والتعدّدية السياسية ومحاسبة المسؤولين، بينما يفضّل فقط 8٪ نظاماً محكوماً بالشريعة الإسلامية. إنّ الانحياز الكبير هذا للديمقراطية، هو تعبير مكثّف عن رغبة السوريين في المساواة والمواطنة، خارج عن التمايز القومي أو الديني أو المناطقي. 

تعتبر سوريا بلداً متنوّعاً في القوميات والأديان والمذاهب، وتعكس النسب التي تؤيّد التعدّدية والتنوّع هذا المعطى. وهناك نسب عالية تؤكّد التعايش مع الآخر ورفض التعامل معه على أساس الدين. إذاً، الاتّجاه العام هو مع الفصل بين الدين والسياسة والتعايش المجتمعي، ونبذً التطييف وتسييس الهويات الطائفية. فلقد أشارت نسبة 66٪ إلى أنّ التعامل مع الآخرين ليس مرتبطاً بالدين، ومَن فضّل ذلك الارتباط هي نسبة 25٪ فقط. ملفتٌ للقراءة، أنّ نسبة 75٪ تشير إلى أنّ ليس كل شخص غير متدين هو سيّء بالضرورة، و55٪ رفضوا تكفير من يمتلك وجهات نظر خاصة في تفسير الدين، بينما وافق على التكفير نسبة 32٪. هذا تعبير عن رفض كبير لتسييس الأديان، والطوائف، والمذاهب، أو العشائر، وأنّ السياسة مسألة وضعية بامتياز.

إن الاتّجاه العام للسوريين، المؤيّد للديمقراطية والتنوّع السوري والرافض للتطييف يتطلّب نقاشاً بحثياً وسياسياً وشعبياً. وهذا ما هو غير متوفّر في المجتمع السوري. فيشير المؤشّر إلى أنّ الأغلبية السورية تعاكس وتتناقض مع سياسات التطييف. طبعاً، يتبادر للذهن السؤال عن سبب عدم إعلان المجتمع عن نفسه كما في الملاحظة السابقة. أثار الانتباه سؤالاً ذكياً، وجاءت النسب العددية لتوضح اتّجاهاً سورياً وازناً يريد تأسيس سورية كدولة قانون واستقلال القضاء. فجاءت الإجابة على سؤال المحاسبة، أي من سيُحاسب في سوريا، شخصيات النظام القديم أم كذلك شخصيات الفصائل والمعارضة، على الشكل التالي: النظام القديم فقط 25٪، بينما أكّدت نسبة 65٪ على ضرورة محاسبة كلّ من تورّط في الانتهاكات. أيضاً هناك سؤال آخر في الاتّجاه ذاته، يقول بأنّ النظام القديم كان يثق بطائفة واحدة، أيّدت نسبة 35٪ هذا التقييم، بينما رأى 44٪ أنّ النظام السابق كان يثق بمن يوالوه وبغضّ النظر عن طوائفهم. هذه النسبة تؤكّد أنّ السوريين ليسوا مطيّفين، بل يملكون رؤية تُمحص وتدقّق في كافّة ممارسات النظام القديم والجديد، كما تشير إلى رفضٍ قطعيٍّ للتطييف وللهويات الدينية السياسية.


الأغلبية السورية وطنية

ما أوردناه أعلاه يشير إلى أنّ الأغلبية السورية، وبغض النظر عن التمايزات الأهلية، وحجمها، هي الأغلبية الوطنية، والتي تريد بناء دولة للجميع أو تريد دولة الجميع، ومن دون تعدٍّ من طائفة على أخرى، وحفظ التمايزات الهويّاتية كذلك. تشير النسب العددية إلى ضرورة تسييد مناخ الحرّيات العامّة، ورفض الميل نحو الإقصاء من الحياة السياسية أو حتى الدينية، كما يتمّ منذ 8 كانون الأول 2024.

النقاش السياسي بل والفكري في سوريا يتجاهل الجانب المجتمعي في قضية العلمانية أو أيّة قضية حداثية، كما أشرت في مقدّمة المقال. يقرأ مفردات السياسة الحديثة وفقاً للتعبيرات السياسية عنها فقط، كقوى سياسية أو ثقافية مثلاً. القراءة هذه هي قراءة ثقافية بامتياز، تتجاهل تموضع سوريا ضمن العالم الحديث منذ أكثر من قرنين. سوريا هذه، ليست دولة معزولة في أطراف العالم، هي دولة نشأت فيها تيّارات ثقافية وسياسية ووطنية وقاومت الاحتلالات، العثمانية والفرنسية والصهيونية، ورَفضت مشاريع طائفية كثيرة دُفعت نحوها، وكان فيها أبرز القوى القومية والشيوعية والعلمانية في المنطقة العربية، وكلّها متعدّدة التشكّل والحضور السياسي والثقافي. إنّ سوريا منوّعة دينياً وقومياً كذلك، وربّما تعدّديّتها هذه، هي من أسباب تجذّر النزعة الوطنية، ورفض تسييس البنى الأهلية، والرغبة في التصالح بين البنى الأهلية والسياسة الحديثة، ومن دون طغيان من هذه على تلك والعكس صحيح.

إن القوى الطائفية والإقصائية ليست هي المسيطرة مجتمعياً. هي قوى سياسية بامتياز، وليست قوى أهلية. وقد استفادت كثيراً من أجواء الحرب ما بعد 2011 ومن الدعم الخليجي والسلفي خاصّة. المشكلة الحقيقية أنّ القوى الحداثية غير منظّمة، والمجتمع تعرّض منذ 2011 لتغيير ديمغرافي وتهجير واسع ومقتلة هائلة ودمار مخيف للمدن وللبلدات وللبنية التحتية. هذا الوضع البالغ في التأزّم، لم يمنع ولم يدفع السوريين نحو تفضيل الدولة الدينية أو الإقصاء أو التسييس الكبير للبنى الأهلية وصدامها الصفري. فما جرى في الساحل والسويداء يرتبط بالسلطة مباشرة لا بصدام البنى الأهلية أو تعبير عنها، ولا يغيّر من استنتاجنا حدوث جانب من ذلك الصدام. 


هيئة تحرير الشام مشكلة سياسية

زاد في تعقيد الحالة السورية وصول قوة سياسة للحكم، سلفية التوجّه وجهادية الماضي، وطائفية في الكثير من ممارساتها، ولديها الكثير من الممارسات الجهادية تجاه القوى الأهلية، الدروز والعلويين مثلاً. هذا التعقيد زاد من قمع القوى الحداثية لناحية التأثير أو الإعلان عن نفسها سياسياً أو مجتمعياً أو ثقافياً. تجد هيئة تحرير الشام نفسها أمام تحدّيات كبيرة. ومن بينها، رغبة سورية في تجاوز ما قبل 8 كانون الأوّل والانتقال إلى دولة تمثّل الجميع وتعبّر عن غنى المجتمع السوري والتعدّدية السياسية وضمان الحريات العامة والشخصية. هذه التحدّيات لا تحتمل تأجيلاً، وتتطلّب استراتيجية وخطّة وطنية تستقي مفرداتها وسياساتها من القضايا المشار إليها أعلاه، من الدولة المدنية والديمقراطية وتحييد الدين عن السياسة، وغيرها من مفاهيم السياسة.

الآن، وعودة إلى نسب المؤشّر. هناك اتّجاه مجتمعي، غير معبّرٍ عن ذاته، يرفض كافّة توجّهات الحكم ولا يتقاطع معها بأية سياسات طائفية أو إقصائية تتبنّاها. فخطاب الطائفية والكراهية ليس هو المعبّر عن حقيقة توجّهات الشعب، وهو خطاب كما أشارت تقارير صحفية عديدة، محدود الانتشار مجتمعياً، وخلفه الكثير من «الذباب الإلكتروني»، وكذلك التجييش الطائفي المُركّز من قبل العديد من القنوات الإعلامية أو المؤثّرين، التابعين للسلطة أو المتحالفين معها. المشكلة التي تواجه السوريين الآن، هي في كيفية تسييس القوى المجتمعية، المدنية الديمقراطية، الراغبة في السياسة الحديثة، والدولة الحديثة. هنا المشكلة الحقيقية، والتي لا تجد لها حلاً، ولأسباب كثيرة. ومن بينها، أنّ السوريّين أعلنوا الحداد الوطني بعد «تبخّر» النظام في المحافظات السورية، ما يشير إلى «تعب» شديد. المقصد هنا هو أنّ السوريون ما عادوا قادرين على تجديد الحرب الأهلية، كما يزعم البعض، هم راغبون في الانتقال نحو دولة الجميع، دولة قائمة على مبادئ المواطنة والعدالة الانتقالية واستقلال القضاء والمساواة بين كافّة المواطنين والحريات السياسية.

إعادة إحياء بنى سياسية حداثية يتطلّب تغييرات كبرى في فهم الواقع وميول الشعب وحاجات النهوض بالدولة. وتُشكِّل سياسات السلطة منذ 8 كانون الأوّل العائق الأكبر أمام هذه التغيّرات، وكذلك غياب الحوارات الفكرية والمجتمعية والسياسية، والتي لا تجد لها مكاناً للنقاش أو تُناقَش وبشكلٍ ثقافي ومقطوع الصلة مجتمعياً. إن النسب العددية لهذا المؤشّر هي بوصلة واقعية لأصحاب الرأي ومختلف الفاعلين في السياسة.

سوريا لن تكون طائفية بحال من الأحوال رغم صخب الخطاب الطائفي.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً
الطفلة إيّان هُدم منزلها: وين نلعب؟ وين نعيش؟