سؤال اليوم التالي
بات هناك سؤال يلازم معظم نتائج الانتخابات في الدول الغربية، وهو سؤال سرّ صعود هذا اليمين المتطرّف والشعبوي والعنفي، وقدرته على إقناع أعداد متزايدة من الناخبين. شهدنا موجة من هذه التساؤلات قبل بضعة أشهر مع الانتخابات التشريعية الفرنسية، وسنشهد موجة أخرى مع فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية الأميركية. والسؤال ليس محصورًا بالجماهير الانتخابية لهذه الدول، بل بات عالميًا مع الإغراء المتفاقم، عند كثيرين، حتى عندنا، لشخصيات سياسية كترامب.
قد لا يكون من الصعب الإجابة على هذا السؤال. الصعوبة ليست معرفية، وأسباب صعود هذا اليمين باتت معروفة. الصعوبة تكمن في ما تفرض هذه الإجابة من وقائع من الصعب مواجهتها أو قبولها، وعلى رأسها أنّ هناك فئات متزايدة من الناخبين لم تعد تمانع الفاشية والكراهية. سيحتجّ البعض على هذا التوصيف الذي يتعالى على خيارات «أناس طيّبين» يريدون معارضة «الإستبلشمنت». لكنّ تربة الفاشية هي طيبة الناس وبساطة أفكارهم.
نتيجةَ الانتخابات الأخيرة في أوروبا أو الولايات المتّحدة، بات هناك مجموعة وازنة، إن لم تكن تشكّل الغالبية، لا تمانع بعض العنف والكثير من العنصرية والكراهية، من أجل شفاء غليلها الأيديولوجي، أي المشاركة في وهم هذا اليمين.
التبسيط القاتل أو العالم من منظور المراهق
فما هو هذا الوهم الإيديولوجي؟ هو «إغراء البساطة»، كنموذج سياسي لمواجهة تعقيدات العالم. وقد شكّل التبسيط شعار ترامب في حملته الانتخابية الأخيرة: في مواجهة الهجرة، جدرانٌ وطردٌ وسعيٌ للعودة إلى عالم تسوده طهارة عرقية متخيّلة؛ في الاقتصاد، تخفيض الضرائب على الأثرياء لتحفيز أرباحهم؛ في ما يخص إدارة المجتمع، إزالة الإدارات بإسم الفعالية؛ في ما يتعلّق بالعلاقات الجندرية، عودة إلى عالم قديم أوضح وأبسط؛ في مواجهة الاحتباس الحراري، إنكاره؛ في العلاقات الدوليّة، إرادة قائد لا تنكسر كلمته.
البساطة هي الغطاء الأيديولوجي لمشروع واسع لإعادة هيكلة المجتمع، بات له عنوان وهو «مشروع 2025»، والذي يقدّم خريطة بناء هذا العالم «البسيط»، خريطة ستشهد التراجع عن عدد من السياسات «التقدمية». لكنّ البرنامج ليس هو من انتُخِب نهار الثلاثاء، بل الوهم الأيديولوجي الذي مثّله ترامب، في صورته كالرجل القوي القادر على إعادة العالم إلى لحظة كانت الأمور فيها أشدّ بساطةً.
لهذا الوهم إسم، وهو المراهقة، لحظة مفصلية في نضوج الأفراد، حيث يتزامن الإحساس بالتفوّق الكامل مع التمسّك بعالم الطفولة، قبل أن ينضجوا. يمثّل ترامب المراهق في عالم الكبار، غير المبالي بقواعد اللياقات الاجتماعية وغير المكترث لحدود المجتمع. هو ليس «رجلاً قوياً»، كبوتين، بل مراهق، بات يحكم العالم. وفي هذه الصورة يكمن إغراء ترامب الأيديولوجي للكثير من الناخبين والناخبات: إذا أردنا العودة إلى عالم بسيط، فعلينا العودة إلى المراهقة، قبل الجامعات وقبل النضوج وقبل «الإستبلشمنت» وقبل أن يصبح العالم معقّداً وصعباً على الفهم. وما اختيار ترامب لإيلون ماسك، أي المراهق الناجح، إلا تأكيد لهذا المنحى تجاه المراهقة كأيديولوجية.
من يريد العودة إلى زمن المراهقة؟
بدأت تُظهر بعض الإحصاءات عن التصويت في الانتخابات الأخيرة، الفئات التي اختارت هذه العودة إلى زمن المراهقة. والواضح أنّ هناك مكوّناً عرقيّاً، متمثِّلاً بشريحة كبيرة من البيض، الذين أكدوا أنّ لا مانع عندهم ببعض العنف والعنصرية للحفاظ على ما يرونه كإضعاف لامتيازاتهم. المؤشر الآخر للتصويت لترامب كان التحصيل العلمي، والذي قدّم صورة مقسومة للولايات المتحدّة على أرضية التعليم.
لكن ربّما كانت الفئة الأكثر توقًا للعودة إلى زمن المراهقة هي فئة الرجال، والذين باتوا منذ سنوات «ينتظمون» ضمن خطابات رجولة جديدة، تعاند التحوّلات الجندرية، باسم عودة لنموذج من الرجولة، تقليدي وعنفي. أحاط ترامب نفسه بشخصيات مثل إلون ماسك ودانا وايت وجو روغان وغيرهم من الرجال الذين اشتهروا على شبكات التواصل الاجتماعي كمنظّرين لرجولة جديدة. وليس مفاجئاً هنا إعلان أندرو تايت، فور انتخاب ترامب، نيّته العودة إلى الولايات المتحدة. فقد بات لهذا الخطاب الذي يمزج بين الرجولة والمال والقوة، ملايين من المتابعين في العالم يشكلون جيشاً سرّياً، يقبع غالبًا في أعماق شبكات التواصل الاجتماعي. انتخب الرجال مراهقًا كرئيس، ربّما في رفضهم لصورة الأم التي تمثله هاريس، وقبلها كلينتون.
العرب بين الإبادة والإجهاض
ربّما كانت صدمة الديموقراطيين بالتصويت العربي والمسلم، الذي عاقب الحزب الحاكم لدعمه الإبادة، من خلال تصويته لمرشّح لم يخفِ عنصريته حيال المسلمين أو دعمه لإسرائيل. فقد اشتهر ترامب بولايته الأولى بفرضه «حظرًا على المسلمين»، ومن ثمّ دعمه لإسرائيل من خلال نقل السفارة إلى القدس والاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية. كما أنّه مهندس مشروع التطبيع الإبراهيمي الذي يشكّل، تحت شعار السلام، منطلقاً لمشروع سلطوي في المنطقة. كذلك بات موقفه الداعم لنتنياهو وإبادتِه واضحًا، وقد أكّده الاستقبال الحارّ للقيادات الإسرائيلية لخبر انتخابه.
ما مِن سبب للدعم العربي لترامب خارج تصريحه اليتيم بأنّه سيحلّ المسألة في الشرق الأوسط سريعًا. فيبدو أنّ الخيار العربي فضّل معاقبة الحزب الديموقراطي، وهذا مفهوم، كما تماشى مع الكثير من طروحات ترامب، من بينها نظرته السلطوية للشرق الأوسط والمشروع المحافظ اجتماعيًا. فجزء كبير من الكتلة الناخبة العربية والمسلمة تتماشى مع طروحات الحزب الجمهوري، ولم تشكّل مسألة الإبادة أكثر من إزعاج في تصويتها.
ما من خيارات سهلة في هذه الانتخابات، لكنّ الإغراء المتزايد تجاه «التبسيط الفاشي» بات اليوم الميزة الأساسية في السياسة، تأخذ أشكالًا مختلفة بين الأنظمة الديمقراطية والقمعية، لكنّها تؤسس لعالم جديد يحكمه يمين فاشي، قرّر مواجهة تعقيدات السياسة بمراهقة خطيرة.