عادت غزة من جديد في الأسابيع الأخيرة الى صدارة الأحداث في المنطقة والعالم. ذلك أنها تحوّلت الى موضع تجاذب، ليس من المبالغة القول إن نتيجته ستكون عميقة التأثير في العلاقات الدولية وفي مستقبل القانون الدولي ومؤسسات الأمم المتحدة.
حملات ترامب ضد القانون والمؤسسات الدولية
بدأ الأمر بحملة إدارة ترامب على المحكمة الجنائية الدولية وعلى مسؤوليها بسبب مذكّرات التوقيف التي أصدروها بحقّ رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزير دفاعه بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة. ثم تواصل مع الحملة الأميركية على جنوب إفريقيا، التي لم تأتِ ضمن سياق الهجوم على كندا والمكسيك وبنما، ولا على الصين أو الدانمارك، بل ضمن سياقٍ انتقامي من الجنوب أفريقيين بسبب دعوى الإبادة الجماعية في غزة التي رفعوها ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية (ولأسباب عنصرية أيضاً، على صلة بخلفية إيلون ماسك، الجنوب أفريقي، ذي العائلة المرتبطة بنظام التمييز العنصري البائد).
بموازاة ذلك، أكّد ترامب وقف كل تمويل لوكالات أممية ودولية إنسانية وتنموية، وكرّس القطيعة مع الأونروا استكمالاً للاستهداف الإسرائيلي لها بما هي «الشاهد» على القرار الأممي الخاص باللاجئين الفلسطينيين وبحق العودة، بعدما كان هو نفسه قد قاطع اليونيسكو في ولايته الأولى بسبب اعترافها بعضوية فلسطين.
غزة في منظور ترامب
على أنّ التطوّر الأهمّ والأخطر في هذا السياق، هو ما قاله ترامب حول مستقبل غزة. إذ لم يكتفِ بتأييد الإسرائيليين في حرب الإبادة، على ما فعل بايدن قبله، بل ذهب أبعد من ذلك، وتخطّى في سعاره تصريحات أقصى اليمين في تل أبيب، وأعلن عن عزمه إفراغ القطاع من سكّانه، وفرض نقلهم الى مصر والأردن، ليسطو على القطاع ويعيد بناءه (من دون سكّانه) ويحوّله الى «ريفييرا» الشرق الأوسط.
ثم جاء فيديو «الذكاء الاصطناعي» المقزّز الذي نشره ترامب، وفيه احتفاله مع نتنياهو بملكية القطاع وبناء أبراج «ترامب» واستعباد رجال ملتحين تحوّلوا الى راقصات، يجول إيلون ماسك بينهم وبين بعض الأطفال المجهول سبب حضورهم، فتمطر السماء دولارات يتسابقون على تناتشها.
والفيديو المذكور، الذي يبدو لوهلة نكتة عنصرية سمجة أو مجرّد وضاعة مُتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي، يجسّد في تفاصيله ومشهديّته جوانب من الترامبية بما هي مزيج من ثراء «نوفو-ريش» وذوق بذيء وأرباح مالية مجنيّة فوق أرض جرى تملّكها بمعزل عن القانون، وبمعزل عن السكّان، وبمعزل عما أنتجته البشرية، والغرب في طليعتها، من مواثيق ومعاهدات ومؤسسات بعد الحرب العالمية الثانية.
القطيعة الترامبية
وإذا كان من الصحيح القول بأن أميركا، ومثلها روسيا والصين وإسرائيل، لم تحترم كثيراً في السابق القانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان وقرارات الأمم المتحدة إلا على نحو انتقائي، وأنها لم توقّع أصلاً على معاهدة روما المؤسسة للمحكمة الجنائية الدولية، فإنه من غير الصحيح اعتبار الترامبية مجرّد استمرار للأمر أو مجرّد نتيجة له. فما يجري ليس انتقائية في العلاقة بالقانون وبسُبل تطبيقه، يمكن اعتباره من سمات العلاقات الدولية تبعاً لموازين القوى والأولويات، بل هو قطيعة مع مرحلة وأدبيّات وبروتوكولات ظلّ فيها للأبعاد الحقوقية الحضور، وظلّ فيها لِما سُمّي «الشرعية الدولية» ومؤسساتها الأممية بعض الاحترام والمكانة، إن في اتخاذ القرارات أو في حل النزاعات أو في إنتاج نصوص ومبادرات يمكن أن تتحوّل إلى أسس لحلّ هذه النزاعات.
وللقطيعة الترامبية في التعامل مع قضايا العالم ومؤسساته ومعاهداته المبنية خلال عقود جذور داخل أميركا إياها. فهو بالطبع لم يقرّر تملّك غزة وطرد أهلها بعد تقديم إدارته مشروع قانون في هذا الصدد، وافق عليه مجلسا النواب والشيوخ (ولَو أنه من غير اختصاصهما). هو قرّر وحسب، ولا اكتراث له بالمؤسسات «الديموقراطية». ثم حوّل قراره الى مادة مشادة ومواجهة محتملة مع جزء من العالم.
وحكومات أوروبا الغربية التي ما زالت مصدومة بقراراته الاقتصادية، وبعزمه السطو على جزيرة غروينلاند (الدانماركية)، والتي تراقب بذهول إجراءاته ضد كندا (والمكسيك)، وانسحابه من دعم أوكرانيا بعد فظاظة اجتماعه بزيلنسكي وإطاحته بكل ثقافة التخاطب الدبلوماسي المألوفة، علّقت على مشروعه لغزّة بتردّد، وكأنها غير مصدّقة أن المشروع جدّي، وأن رئيس أكبر دولة يقول بوضوح إنه قرّر التطهير العرقي (المصنّف جريمة ضد الإنسانية) في أرض يريد بناء فنادق ومباني فخمة فوق أشلائها. وحكومات دول مؤثرة كثيرة حول العالم (باستثناء جنوب أفريقيا) ما زالت صامتة أو مرعوبة من انفلات شخص قويّ من الضوابط «العقلانية» المعهودة ومن كل القوانين والأعراف.
الموقف العربي
وحدها الحكومات العربية تبدو اليوم جدّية في ردّها على ترامب ومقترحه الغزّي. مردّ ذلك ليس «شجاعتها» أو مصداقيتها، ولا تمسّكها بالقانون الدولي وبحقوق الفلسطينيين. هي تردّ لأن ما يجري يستهدفها مباشرة. فالأردن ومصر يعدّان استقرارهما مهدّدين (وفي الحالة الأردنية، وجود الكيان ذاته) في مشروع ترامب، ويعتبران أن قبولهما به يجعلهما شريكين كاملين في أكبر عملية تهجير للفلسطينيين في التاريخ (إذ أن عدد أهل غزة اليوم يوازي ثلاثة أضعاف عدد الفلسطينيين الذين هجّرتهم إسرائيل في النكبة).
ودول الخليج، السعودية وقطر والكويت تحديداً، تنظر بقلق الى شكل تعامل ترامب مع حلفائه الكنديين والأوروبيين، وتدرك أنه قد يتعامل معها بنفس الطريقة ويطلب منها أموراً ليس بمقدورها تلبيتها، إن ما في يخصّ تصفية القضية الفلسطينية سياسياً أو في ما خصّ تمويل التطهير العرقي لغزة و«مساعدة» مصر والأردن في هذا السياق. ودول مثل الجزائر والمغرب والعراق لا تستطيع بدورها القبول بالحلّ الترامبي في ظلّ الأوضاع الدولية القائمة وما فيها من ضبابية المرحلة المقبلة ومواقف أوروبا وروسيا والصين تجاهها. هذا بالإضافة الى ضغوط شعبية وغضب في معظم البلاد المذكورة، يصعب على حكوماتٍ مهما كانت تسلّطية عدم الاكتراث بها وبتبعاتها، خاصة في موضوع على هذه الفجاجة والاستفزاز والجرمية.
السؤال المطروح إذاً هو هل ستتمكّن الدول العربية المجتمعة حول الخطة المصرية لإعادة إعمار غزة والحفاظ على أهلها وسكّانها، من إقناع ترامب بتبنّي خيارها؟ وإن رفض الأمر كما هو الحال في ردود فعله الأولى، هل ستذهب الى مواجهته متمسّكة بمبادرتها؟ وهل ستسعى إلى بناء معسكر دولي داعم لها ضدّ واشنطن، أم أنها لن تجرؤ على الأمر، مراهنة على الوقت وعلى التفاوض مع الإدارة الترامبية لتعديل وجهتها والوصول إلى حلّ وسطيّ ما بين الخطّتين؟ وما هو هكذا حل؟ أيرتبط بوجود الغزاويين فوق أرضهم أم بملكية مشاريع القطاع المستقبلية وشركاته أم بالجهة المشرفة على إدارته و«إعادة إعماره»؟ وما هو مصير حركة حماس والسلطة الفلسطينية ودور إسرائيل في أي من السيناريوهات المرتقبة؟
لا شكّ أن غزة هي اليوم في ظلّ الإبادة الجماعية التي وقعت، وفي ظل الخطة الترامبية والردّ العربي، والتموضعات الأوروبية والروسية والصينية، ومواقف كتلة «البريكس» ومجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة ومحكمة العدل والمحكمة الجنائية، أرض الأسئلة والامتحانات والصراعات العسيرة التي يمكن أن تعيد تعريف الكثير من الديناميات والعلاقات الإقليمية والدولية، في مرحلة تعبث الترامبية بتوازناتها وتنشر فوضى كونية غير مسبوقة منذ ثمانين عاماً.