الجبل- الوادي- النهر
يصف غسان سلهب ثلاثيته التي أنهى عرض آخر أجزائها، «النهر»، ضمن الدورة الحادية عشرة من مهرجان «أيام بيروت السينمائية»، كأنها ثلاث لوحات متّصلة العوالم، على منوال اللوحات التي كانت تعرض خلال القرون الوسطى في أوروبا: لوحة كبيرة الحجم في الوسط، ولوحتان جانبيّتان أصغر حجماً.
في حال أردنا ترتيب اللوحات حسب موقعها ضمن هذا النموذج، سيكون علينا وضع «الوادي» في المركز، وهو الفيلم الأكثر كثافة من ناحية عدد الشخصيات وكمية الأحداث. أما «النهر» و«الجبل»، فنضعهما على الجوانب لأن عوالمهما إمّا تُختصَر في شخصية واحدة أو شخصيّتين بالأكثر. علما أن الخط الرابط بين الثلاثة هو أولا الجغرافيا التي يراها سلهب سبّاقةً على التاريخ الإنساني والمجتمع، بالاضافة لثيماتٍ أخرى منها العزلة والتهديد الأمني اللذان تتعامل معهما الشخصيات بشكل مختلف بحسب تغيُّر الظروف.
الجبل
تدور أغلب مشاهد «الجبل» في فندق ينعزل فيه رجل (فادي أبي سمرا) بمواجهة رغباته ومشاعره بينما تظنّ عائلته وأصدقاؤه أنّه سافر خارج لبنان. تظهر العزلة في أكثر أشكالها قسوةً وتجريداً عندما يقطع الرجل التواصل مع كل شيء يأتي من الخارج، ما يشمل الطعام والجنس، في تعبير عن خوف من العالم ودافع عميق للتطهّر والتخفّف من ثقله.
الوادي
ينطلق «الوادي» من المكان نفسه الذي انتهى فيه الجبل. يفقد شخص لا نعرف شيئاً عنه (كارلوس شاهين) الذاكرة بعد وقوع سيّارته في منحدر جبلي. تعثر عليه مجموعة تنقله إلى مزرعة مخصّصة لصناعة المخدرات الكيميائية في البقاع. تنعزل المجموعة عن العالم في المزرعة، حيث تعيد إنتاج مجتمع مصغّر وشبه عائلي، أحد أفراده يصبح بمثابة الأب الذي يحاول فرض سلطته على الباقين (يقدّس طاولة الطعام مثلاً والطقوس اليومية). أما الآخرون، فكلٌّ منهم يمتلك مزايا وسلوكيات خاصة به. ثم حين يواجه هؤلاء الخطر الخارجي الذي يتمثّل في سلطة الدولة أو الحرب بشكل عام، يعودون للتكتّل مجدّدا مع بعضهم بعضاً.
النهر
أما الفيلم الثالث والأخير، فيتبع شاباً (علي سليمان) وفتاةً (يمنى مروان) يجدان نفسيهما تائهين داخل غابة معزولة عن العالم وشبه مسحورة. يستجيب كلٌّ بمفرده للتهديدات بطريقة تختلف عن الآخر، إن كان من الطبيعة نفسها وما تبقى داخلها من آثار حروب سابقة، أو احتمال انتهاء علاقتهما بشكل سلبي. أما حين يجتمعان ويواجهان الخطر بشكل مشترك، تولد طاقة بإمكانها أن تعيد وصل ما كان منقطعاً.
الخروج من بيروت
يقول غسان سلهب إنّ الأفلام الثلاثة أتت نتيجة قراره الخروج من بيروت بعد إنهائه فيلم «أطلال»:
في لحظة من اللحظات، لم تعد بيروت نفسها بالنسبة لي وصرت عاجزًا عن رؤيتها أو الشعور بها مثل السابق. كأنها أصبحت ديكوراً بالمعنى المبسّط للكلمة. ومن المعروف عنّي أنّي من المستحيل أن أصور في ديكور. أريد المكان أن يكون مكاناً. لديه حياة أشعر بها ووتر خاص.
بكل حال، لم تكن بيروت في أفلام سلهب قبل «الجبل» مدينةً تقليدية، بل مكاناً يعيش سكانه تائهين ومغتربين عن ذواتهم. يظهر ذلك في شخصية المفقود في «أشباح بيروت» الذي يتحوّل إلى كائن يعيش بين الحياة والموت بعد عودته إلى لبنان، كما تظهر في الطبيب الجراح في «أطلال» الذي يتحوّل تدريجياً من إنسان إلى مصّاص دماء.
في الثلاثية لا يتغيّر الحال كثيراً، أقلّه بالنسبة للشخصيّتين الرئيسيّتين في «الجبل» و«الوادي» اللذين يفقدان العلاقة مع المدينة، إن بقرارٍ شخصيٍّ بالانعزال عن العالم أو من دون قصد عند فقدان الذاكرة والهوية الشخصية:
بعكس مخرجين لبنانيين آخرين، أنا لم أولد في بيروت، بل أتيت إليها من الخارج. حاولت التقرّب منها تدريجياً، ومرّ وقت طويل قبل أن أبدأ برؤيتها. لم أكن أريد أن أتفوّق عليها طبعاً، لكن في الوقت نفسه لم أرد أن تتفوّق عليّ. ثم بين عامَي 2005 و2008 وصلت لمرحلة صرت أتعامل فيها مع الأمكنة بطريقة أوتوماتيكية. أقول إنّ بيروت مدينتي من دون أن أفكّر مسبقاً، متناسياً أني أتيت إليها غريبا في الأساس.
أعتقد أننا حين نعتاد على الأشياء نصبح عاجزين عن رؤيتها. صورتها في أذهاننا تصبح أقوى من الواقع. كمُخرج لطالما رفضتُ أن أصوّر مكاناً أعجزُ عن رؤيته أو الشعور به. لست من الذين يختارون موقع تصوير لأنه جميل وحسب. كان عليّ أن أكون مسكوناً بالمدينة مجدّداً كي أستطيع تصويرها، وإن كنت عاجزا عن ذلك، وجب عليّ أخذ مسافة منها إلى الجبال المحيطة.
يذكّر حديث سلهب هنا بما حصل في المشاهد الأولى من «الجبل» مع الشخصية الرئيسية التي يظن أقاربه وأصدقاؤه أنه سافر من لبنان، لكن في الحقيقة استأجر سيارة وذهب لقضاء فترة عزلة في أحد الفنادق الجبلية. يمكن القول إنّ الثلاثية تبدأ من تلك اللحظة التي يصبح فيها الرجل خارج لبنان وداخله في الوقت نفسه، ما ينسحب على الأفلام الأخرى منها، والتي بالرغم من أنّ أحداثها تجري خارج بيروت، فإنّ المدينة حاضرة فيها بأشكال مختلفة.
النهر وتضاريس الخوف
الغابة ليست هروباً إلى مكان آمن، بل تبدو في فيلم «النهر» وكأنّها تكثيف لتجربة العيش في بيروت خلال السنوات الماضية.
يقدّم الفيلم عناصر بصرية وصوتية فريدة. فالغابة بدون شك ساحرة والمشاهد الطبيعية تتمتع بجمالية عالية، لكن الفيلم يضيف لمسته الخاصة عبر تدخلات تعزّز الطابع السحري والشبحي العام للمكان ليصبح أكثر غرابة. في الوقت نفسه، تساعد الطبيعة الواسعة والمفتوحة، على استلهام هامش من الأصوات المعزِّزة للخوف، والتي تعطي غرائبية من نوع خاص. وكأنه حوار بين نوعين من الأصوات «القلقة»:
الأصوات الحيّة والمريبة القادمة من الحيوانات والرياح والطائرات الحربية، وبين أصوات موسيقية- شبحية تُعزف على الغيتار الكهربائي (شريف صحناوي). تصبح هذه الأصوات أحيانا مجرّد موجات صوتية أشبه بالدرون المنخفض الذي يكون غير واضح كثيراً للموجودين في الصالة، لكن يؤثر على أجسادهم واستجاباتهم للفيلم من خلال الارتجاج.
يُعرَف عن غسان سلهب أنّه يقدّم سينما تؤثّر بالجسد بقدر ما تؤثّر بالروح والعقل، وهو ما ينطبق على «النهر» الذي يحاول الدخول إلى أعماق مخاوف اللبنانيين معيداً اختراع بيروت على شكل طبقات جيولوجية وتضاريس كلما اكتشفنا واحدةً منها، كلما تورّطنا أكثر.
تتنوّع هذه التضاريس بين تلك التي تملأها الصخور، الأشجار بأنواعها، والأراضي الزراعية المصنوعة بيد الإنسان، وصولاً إلى المغاور والأنفاق الطبيعية التي لطالما اكتسبت أهمية عسكرية عند المجتمعات المتعاقبة على لبنان. يتعامل سلهب مع هذه الأمكنة المختلفة كفضاءات ليس لديها خصوصية بصرية وسمعية وحسب، بل ترتبط أيضا بعوالم ما ورائية تجعل الشخصيات حين تتواجد فيها كأنها تتواصل مع أرواح أو أشباح من الماضي (مشهد الضباب مثلاً).
جغرافيا الخوف
هنا يمكن أن نعود لكلام سلهب عن أهمية الجغرافيا بالمقارنة مع التاريخ، بصفتها الثابت الوحيد في علاقة الناس مع العالم. يترجَم هذا في الفيلم من خلال الفصل بين الطبيعة كعنصر مادي/ ملموس ليس من السهل أن يتمّ التلاعب به بصرياً، والإنسان ككائن زائل يمكن أن يتحوّل إلى مادة شبحية في أي لحظة.
يشير كلام سلهب من ناحية أخرى إلى أهمية الجغرافيا في السياق اللبناني بشكل خاص، حيث كان لها تأثير كبير على تكوين البلد السياسي- الإجتماعي على مدى آلاف السنين. فقد ساعدت الطبيعة الجبلية الوعرة على تكوّن مجتمعات متمرّدة أحيانا على المركز، ومستعدة للمعركة بشكل دائم وتمتلك علاقة بنيوية مع الخوف.
من هنا يمكن القول إنّ ظهور بيروت قبل قرن ونصف كمدينة تعتبَر مركزاً للجبل كان له أثر في تكثيف تناقضات الماضي وإعادة إنتاجها من جديد في المدينة من خلال الاضطرابات السياسية التي لا تنتهي. لذلك ليس خاطئاً رؤية خريطة مشاعر اللبنانيين اليوم بأنها مرتبطة بتراكم الخوف والتهديد الذي حصل طويلاً في جبل لبنان.
يعيدنا هذا للفكرة المتكرّرة في الثلاثية بأن التضاريس التي تنتقل داخلها الشخصيات، سواء في الجبل أو الوادي أو النهر، هي بشكل أو بآخر تكثيف للتاريخ اللبناني ومشاعر السكان بالتهديد والعزلة. أما النهر الذي يظهر في المشاهد الأخيرة من الفيلم الأخير في الثلاثية، فهو مجرى التاريخ الذي يجرف معه كل ما ترسّب في المياه الجوفية بفعل السكان على مدى القرون الماضية، ليصبّ في النهاية داخل بيروت كاضطرابات وحروب لن تنضب في أي وقت قريب.