مراجعة سينما
المنذر الدمني

«حالة عشق»: عن بطل رغمًا عنه 

11 شباط 2025

كان واقفًا برفقة مجموعة من الأطباء وسط كمية هائلة من جثث الشهداء يُدلي بشهادته عمّا حدث بعد مجزرة مشفى المعمداني يوم 17 أكتوبر 2023، عيونه متسعة، صوته مرتجف، والجثث حوله في كل مكان. عادت لي هذه الصورة فور إعلان وقف إطلاق النار في غزة في 15 كانون الثاني/يناير 2025، عادت لي كل صور المجازر التي حدثت خلال الأشهر الـ15 الماضية، وقفت جامدًا لا أعرف بماذا أشعر أو أفكر أو أقول أو أفعل، وقفت جامدًا أمام هول كارثة بشرية عاجزًا حتى عن متابعة مشاهد الاحتفال على السوشال ميديا. 

في هذه الليلة شاهدت فيلم «حالة عشق» للمخرجتين كارول منصور ومنى خالدي.

«حالة عشق» هو فيلم وثائقي يرصد حالة تدهور القطاع الصحي في غزة خلال الحرب، وذلك عبر الاستهداف الممنهج للاحتلال الإسرائيلي للمستشفيات والأطباء والمرضى في غزة. يلاحق الفيلم حكاية الدكتور غسان أبو ستة ليحاول أن يعرفّنا عن الشخص الذي عُرف بشاهد مجزرة المعمداني. الشخص والمجزرة وغزة، ثلاثة فصول تتداخل في قصة واحدة. 

اختار غسان أبو ستة، الطبيب الفلسطيني البريطاني، أن يعود إلى غزة في الحرب ليقدم خدمات طبية. ندخل من خلال الفيلم في حياة غسان وخياراته بالتوازي مع نقله لواقع ما يحدث خلال الحرب. فهو الذي دخل إلى غزة للمرة الأولى في الانتفاضة الأولى 1987، ومن ثمّ في الانتفاضة الثانية عام 2000، وفي حرب الـ2009 والـ2012 والـ2014 وفي مسيرات العودة عام 2019 وفي حرب 2021، وأخيرًا بعد طوفان الأقصى في حرب 2023، لنرى أنّ علاقته مع غزة علاقة وجود وخيار حياتي وليست مهمة لمرة واحدة.
يستعرض الفيلم حياة غسان منذ الطفولة. خرج في مظاهرته الأولى عندما كان في العاشرة من عمره احتجاجًا على كامب ديفيد، وفي مرحلة الشباب عندما دخل كلية الطب، أراد العودة إلى غزة وتقديم المساعدة من خلال مهنته، حيث تعرّف إلى زوجته ديمة، وأنجب ثلاثة أطفال نرى علاقته الطيبة معهم ناقلًا إليهم مبادئه من خلال أفعاله وليس أقواله.

يسرد غسان في الفيلم ما حدث معه في غزة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب. يتحدث عن الاستهداف الممنهج للمستشفيات والأطباء من قبل الاحتلال وينقل تفاصيل يومية لحالة العجز الكلية في القطاع، حيث يتم المفاضلة بين المرضى وفق مَن لديه أطفال أم لا، أو التفضيل بين من يتعرضون لموت بطيء أو موت سريع. ويروي عن الأطفال الذين خسروا أطرافهم بلا ذنب، وعن عائلات مُحيت تمامًا من السجلات ولم يتبقَّ منها أحد. نرى الموادّ البدائيّة لتعقيم الجرحى، والاضطرار لإقامة عمليات لأطفال بلا مخدر، نرى أنه اضطرّ هو نفسه إلى عملية جراحية، وبعد عمليته نهض لكي يجري عمليات للمرضى، ولم يكن هناك وقت أو رفاهية للراحة.


البطل رغماً عنه

نرى خلال الفيلم غسان كشخصية محبّة بسيطة، صديق متواضع وأب حنون يحرص على تقديم الإفطار لعائلته يوميًا. نرى شخصية خجولة ترفض بشدّة كلمة بطل. وبهذا الرفض، يقدّم لنا مفاهيم مختلفة وواقعية أكثر عن البطولة. فنرى أنّ كفاحه الخاص وإصراره على تقديم خدماته في غزة هي خيارات حياتية حتمية، هي محاولاته الخاصة في رفض العجز. وهكذا تجلى منطق صراعه الخاص في أكثر من مستوى. الأول هو تواجده في غزة وتقديم خدماته الطبية ومحاولة نقل متا حدث في المستشفيات، في الشفاء والمعمداني وبوابة النصر للأطفال ومستشفى السرطان التركي وكمال عدوان والعودة. أما المستوى الثاني، فتجلى بعد خروجه من غزة حيث تحوّل إلى شاهد، أصرّ على نقل السردية في وسائل الإعلام والسعي لتقديم المساعدات لجرحى الحرب وأهالي الشهداء. أما المستوى الأخير، فهو وجوده وتأثيره على حياة عائلته وأصدقائه، حيث يقول: من الضروري أن يشاهدوني وأنا أذهب، ويقصد هنا أطفاله.
في تكامل هذه المستويات التي نراها في رحلة غسان خلال الفيلم، يقدّم لنا صورة أكثر حقيقية عن البطل، البطل بكونه إنساناً عادياً وليس مختلفاً، كالمنقذ الفريد من نوعه الذي يمتلك الشجاعة الخارقة. خيار نصرة الحق هو خيار حياتي بسيط مرتبط برفض مبدأ العجز في أكثر أوضاع البشرية عجزًا. هو الإنسان البطل الذي يقبل لقب البطل على أن يكون كل الناس الذين يتعرضون للإبادة أبطالًا، وكذلك من يتحملون المأساة، البطل العادي الذي يقول لنا أن ما يفعله في غزة هو الفعل الطبيعي وليس العكس، في زمن تمّ تكريس العجز والفرجة على أنه الأمر الطبيعي، وحالة القبول والحزن لما يحدث على أنّها مصير حتمي. يناقض غسان وأهالي غزة هذا المفهوم، ويكشفون لنا أكاذيب وسرديات العالم الحر المقيتة.


معنى أن تكون من غزّة

يقدّم الفيلم في خصوصيته الحكاية الفلسطينية، بأن ما يحدث في غزة اليوم ليس نتاج «طوفان الأقصى» بل هو مصير حتمي على غزة منذ وجودها. وهذا ما نراه في شخصية ديمة، زوجة غسان وابنة غزة، وهي تشرح لنا ما معنى أن تكون ابن هذه المنطقة حقًا، أن تكون متربياً على العناد والصبر والتحمل، أن تكون ابن الحرب حيث أيام «السلام» هي أيام معدودة على غزة منذ النكبة الأولى. تسرد لنا ديمة كيف أحبت غسان، الدكتور الشاب المناضل، وكيف كان الخروج من غزة بعد الزواج صعبًا، كما كان الخروج منها دائمًا.
نرى في شخصية ديمة بُعدًا آخر من الحكاية الفلسطينية. فنراها تسرد تاريخ العائلة بخصوصيتها شديدة الحساسية، وكيف يمكن أن تكون صورةٌ وثّقت ذاكرةً أهمُّ من الجدران. نرى علاقتها الخاصة مع غسان، المبنية على الحب وعلى النضال في غزة، حيث تقول أنها لن تحترمه إن لم يذهب. نرى هنا البعد الأعمق من خيار غسان الحياتيّ بعلاقته مع غزة في عيون عائلته، حيث قراره هذا هو قرار عادي ومتوقع عند عائلته، فنجد أبعاد المدينة التي دخلت في صلب تكوين العائلة والعلاقات الإنسانية، علاقة الحب والأمومة والأبوة، هي خصوصية العائلة الفلسطينية في كل مكان، هي الخصوصية التي ترفض الموت عبثًا وتفرض الاستمرار والمقاومة بكل أشكالها كحتمية وجودية وليس كخيار بطولي، على أهميته البطولية بالنسبة للعالم ككلّ.


مستويات السرد الثلاث 

يتكوّن السرد في الفيلم من مستويات عدّة. الأوّل هو غسان وهو في مدن مختلفة يتحدث عن تجربته في غزة. يحمل هذا المستوى أبعاد البوح للصديق الذي يحمل في طياته أبعاد القهر والحزن والمفاجأة، مع المحافظة على رباطة الجأش التي تأتي مع البوح أمام الكاميرا، كما نراه في منزله بيوميّات حياته البسيطة، يتابع الأخبار ويصرّ على متابعة الخطاب الإعلامي والدفاع عن أهالي غزة في المحافل الدولية. 
أما المستوى الثاني، فهو داخل غزّة في المستشفيات، وهو المستوى الأكثر تأثيرًا حيث يترافق هذا المستوى مع صور للضحايا والمستشفيات. نراه كحال كلّ الغزّيين الذين يمشون بسرعة باحثين عن النجاة والفعل الفوري، ولكن يحمل هذا المستوى بُعدًا مُكربًا مع التسجيلات الصوتية التي تنقل وضع القطاع تارة، ورسائل الطمأنينة تارة أخرى، وكأنه يحاول قول كل ما يمكن قوله قبل أن يموت، حيث الموت هو الهاجس الأساسي في ذاك الوضع. تتجلى خصوصية هذا المستوى بحالة إنسانية عشناها جميعًا في حرب سوريا ولبنان وفلسطين الأخيرة، فمع كثرة الغارات أصبح التواصل مرتبطاً بشكل أساسي بتسجيلات الصوت التي تحمل رسائل قصيرة ومقتضبة مهمتها أن نعرف من بقي على قيد الحياة. 
أما المستوى الثالث، فيتجلى بباقي الأشخاص الذي يتحدثون عن غسان، وأهمهم ديمة التي تنقل خصوصية أخرى في مشاعر الإنسان الفلسطيني خلال الحرب. هي أقرب للناس الذين يشاهدون عن بُعد، ولكنّ مقاومتها مبنية على خيارات حياتها التي تجلّت بكونها ابنة غزّة.

تجتمع مستويات السرد هذه لتقدّم لنا شريطاً سينمائياً يعبّر في كل مستوياته عن جملة قالها غسان، وهي هدول مش أخبار، هدول ناس بعرفها. فخصوصية السرد السينمائي مع خصوصية غسان وديمة تقدم لنا حكاية إنسانية بالدرجة الأولى، ترجعنا إلى المستوى الشعوري لرؤية هذه الحرب من منظور آخر، وتعيد طرح أسئلة كبرى. وهذا ما حدث معي في اللحظة التي انتهيتُ منها من مشاهدة الفيلم بعد إعلان وقف إطلاق النار. أدركتُ فجأةً أهمية التوثيق والحفاظ على السردية وإعادة تقديمها ليس فقط للعالم، بل لنا نحن أولًا، لكي نكسر التراكمات الشعورية التي تجعلنا نرى أن ما يحدث هناك مجرد أخبار، ولكي نعرف ماذا يجب أن نفعل ونشعر ونقول بعد وقف إطلاق النار. فكما يقول غسان في نهاية الفيلم وهو متأكد من انتهاء الحرب: أنه لا نهاية بدون عدالة، فيجب أن نبحث عن العدالة ونحارب لكي نحصل عليها، علينا مواجهة العجز لكي نرفض عبثية موت الشهداء. لعلّ الفرحة يجب أن تكون لأهل غزة فقط، الفرحة التي سيأتي بعدها الحداد الكبير، فنحن بحاجة لعمر فوق أعمارنا لكي نحزن على ما حدث. ولكن، ولكي يكون الحزن مناسبًا، يجب أن نصرّ على تحقيق العدالة للناس والأطفال والبيوت والمخيّمات، فالحق لا يتجزأ وقضية فلسطين هي قضية العالم، هي قضية الأحرار وقضية الحق ضد الباطل، يجب أن نتابع نضالنا في كل المستويات التي رأيناها في حكاية إنسان بطل عادي مثل حياة غسان أبو ستة.
ينتهي الفيلم بسؤال المخرجة كارول لغسان: كيف تحب أن ينتهي الفيلم؟، يصمت غسان قليلًا ويبتسم ويقول: بحب كون على معبر رفح ليقول لنا أن ما حدث في غزة لم يبدأ في 7 أكتوبر ولن ينتهي في 15 يناير، فهي:

حالة عشق لا تتكرر، تلك فلسطين
إن قدمت لهم ماءً، سألوك بحب إن ذقت مياه فلسطين
أو أكلوا، سمّوا بسم الله وحب فلسطين
أو قُتلوا تحت الأرض،
يعودون إلى حضن فلسطين
أو جاؤوا باب الجنة
يلقى الله بأيديهم قبضة طين منها
يتمنى أن يستبدل جنته يا عبد الله بهذا الطين
مظفر النواب


عُرض فيلم «حالة عشق» حتّى الخامس من شباط (فبراير) – سينما «متروبوليس» (مار مخايل، بيروت).
كما تذكر المخرجتان كارول منصور ومنى خالدي بأنه سيتبع الفيلم حملة تأثير ومناصرة لضحايا وجرحى الحرب، ليكون الفيلم- إلى جانب حفاظه على سردية- فعلاً بحد ذاته في المعركة لمواجهة العجز والعبث في الحرب. كذلك ذكرت المخرجتان أنّ أرباح الفيلم ستذهب لصندوق علاج أطفال الحرب.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
ماسك يقرّ بكذبة إرسال الواقيات الذكرية لغزّة 
جمهور سلتيك يتحدّى اليويفا
لجانٌ مدنيّة لإدارة أحياء دمشق
13-02-2025
تقرير
لجانٌ مدنيّة لإدارة أحياء دمشق
حيّ ركن الدين نموذجاً
تعليق

«بورنوغرافية» المرأة وتأديب الاختلاف 

صهيب أيّوب
وزارة العدل السوريّة تحقّق مع قضاة «محكمة الإرهاب»
حدث اليوم - الأربعاء 12 شباط 2025 
12-02-2025
أخبار
حدث اليوم - الأربعاء 12 شباط 2025