تحليل سوريا
محمد علي الأتاسي

خطوة خطوة، مشهداً مشهداً 

من المجزرة إلى المجزرة

14 آذار 2025

تفوح رائحة الدم من شبكات التواصل الاجتماعي. لا شيء يشبه المجزرة إلا المجزرة. تفوح رائحة الدم من المجزرة ومن شاشات المجزرة. تفوح من فوهات البنادق، من الكلمات، من الصور، من التبريرات، من المزايدات، من المقارنات الجوفاء، من الدكتاتورية المتداعية، وتلك التي في طور البناء. 

تفوح رائحة الدم من منطق «نحن» و«هم». منطق «دمنا» و«دمهم». منطق «مظلوميّتنا» و«مظلوميّتهم». عشيرتنا وعشيرتهم. طائفتنا وطائفتهم.

سأعاند نفسي، ولن أُعيد فتح صفحتي على الفيسبوك، لن أشاهد تلفزيونات الفتنة. أشعر بالعار والخزي ولا أريد أن أختنق بخطاب الكراهية والإبادة واللايكات الملوّثة بالدماء والشاشات الملوّثة بقيح الفتنة. 

لم يكتفوا بمحاولة مصادرة سردية الثورة وأهازيج الثورة وعلم الثورة، بل ها هم اليوم يقتلون الأبرياء ويمثّلون بجثثهم باسم الثورة وباسم القضاء على فلول النظام البائد، وكأنّ القضاء على الفلول لا يمرّ إلا على جثث الأبرياء المدنيين.

مهلاً، سيخرج علينا مدّعٍ وقاتل طائفي ليقول: لا مدنيّين أبرياء في الطائفة العلوية. كما خرج علينا مدّعٍ وقاتل طائفي وقال: لا مدنيين أبرياء في الطائفة السنية أو في ريف الغوطة أو في ريف إدلب. العدوّ المتخيَّل والمعمَّد بالمجزرة في وجه الجماعة المتخيّلة والملوّثة بالمجزرة.   

أحاول أن أتواصل مع أصدقائي من أبناء الطائفة العلوية وأطمئنّ عليهم. أخاف أن يُساء فهمي وأن أقع في منطق الـ«نحن» و«هم». أنا هم. وهم أنا. نقطة على السطر.


خطوة خطوة

أتذكّر أنّ فيلم صديقي أسامة محمد التسجيلي «خطوة خطوة» متاحٌ على اليوتيوب، وهو فيلمُ تخرُّجه القصير من أكاديمية السينما في موسكو في العام 1978. أقرّر مشاهدته من جديد. أعيد من خلاله اكتشاف أنّ قاتل البارحة هو ذاته قاتل اليوم، وأنّ الضحية تقتل الضحية، رغم تبدُّل الأسماء والأمكنة. 

الجندي السوري العائد في العام 1976 من مجزرة تل الزعتر في إجازه إلى قريته الرامة في الساحل السوري. هو ذاته المقاتل السوري العائد من مجزرة الساحل إلى قريته في ريف إدلب أو دمشق أو حلب أو دير الزور.

الجندي السوري ابن الأسرة البطريركية وابن الجوع والخوف وابن التعليم بالحشو والضرب، لا يجد في النهاية ملاذاً لأحلامه الزائلة في أن يصبح ذات يوم مهندساً أو طبيباً أو معلّماً، إلا في الهروب إلى الأمام إلى أحضان المؤسسة العسكرية الأسدية. والمقاتل الجهادي، طالب مدرسة الشريعة، ابن الأسرة البطريركية، وابن الجوع والخوف وابن التعليم بالحشو والضرب، لا يجد في النهاية ملاذاً لأحلامه في الخلاص وفي النجاح إلا في الهروب إلى أحضان الفصائل الجهادية. وبين الاثنين، وعلى ظهر الاثنين، يشيخ دكتاتور ويولد آخر. 

تقول الاهزوجة التي تريد أن تشدّ عصب الجماعة من حول القائد الفرد حافظ الأسد (المكنّى بأبو سليمان يومها) في فيلم «خطوة خطوة»: 


جبل عالي، جبل عالي، والعالي هو جبلنا، أوف آه ه 

أبو سليمان أبو سليمان صار من أمر الله جبلنا...

وبعون الله والخضر، كان الله قدّر أبو سليمان

هو وجيوشه بدهم يحمي ظهرنا وبعون الله تننتصر والعدا قدامنا يهرب. 


ويهرب العدا من أمام أبو سليمان، لكنّه يحتلّ الجولان في طريق هروبه، وتنتصر القيادة على الشعب ويصير الاسد «قائدنا إلى الأبد». 
خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الوراء، ويعيد الشعار تموضعه ويصير «سيّدنا محمد قائدنا للأبد»، ويبقى الأبد مصنعاً للطغاة، تارةً باسم التقدّم والاشتراكية، وتارةً باسم الدين.

أما محمد الجندي العائد لتوّه من مجزرة تل الزعتر، فيقول لصديقه المخرج أسامة: أنا أنفّذ أي مهمة تطلبها مني القيادة حتى ولو كانت الموت. إذا كان أخي حاكي شي بيضر بأمن الدولة واعترف، أنا بجي بحط المسدس في أذنيه. إذا حدا بيسب القيادة، يكون أخي، يكون أي حدا من اهلي، إذا حاكي شي يضر بأمن الدولة أنا بقتله. 

نعم محمد وأشباهه سيقتلون أخوتهم البيولوجيين أو أخوتهم في الوطن، ذات يوم في تل الزعتر وفي جسر الشغور وفي حماه، ومن ثمّ يقتلونهم من جديد في درعا والغوطة وحمص ودير الزور والرقة وحلب وعفرين، وسيعاودون قتلهم مجدّداً في اللاذقية وطرطوس وجبلة. المجزرة تولد من المجزرة، ومن الحفاظ على هذه الكذبة الكبرى التي اسمها «هيبة الدولة»، سيّان إن كان القتيل يسبّ القيادة أو يسبّ الدين. ويشتدّ عصب الجماعة ضمن متلازمة «نحن وهم». هم القاتلون ونحن القتلى. هم الشياطين ونحن الملائكة. نحن وهم. هم ونحن.  


نجوم النهار التي تطلّ علينا مجدداً

مشاهدة فيلم «خطوة خطوة» ستدفعني لمشاهدة فيلم أسامة الروائي الأول «نجوم النهار» (1988) الذي ينتقل فيه من صناعة الجندي القاتل من داخل القاع المجتمعي وعلاقاته السلطوية في فيلم «خطوة خطوة»، إلى تشريح صناعة الدكتاتور القاتل من داخل ذات القاع المجتمعي في فيلم «نجوم النهار». وبمثل ما استطاع أسامة محمد في فيلمه «خطوة خطوة» أن يمحو الحدود الوهميّة بين الفيلم الوثائقي والفيلم الروائي، فإنه سيعود بعد عشر سنوات تقريباً مع فيلمه الروائي «نجوم النهار» ليلغي من جديد هذه الحدود وليدلّنا على الطريق التي يمكن أن تمضي به السينما في مقاربتها الفنية والنقدية للواقع وقدرتها على استشراف المستقبل.

يستعيد أسامة في «نجوم النهار» كل المفردات البصرية والثيمات الأنثروبولوجية والسياسية التي قاربها في فيلمه القصير «خطوة خطوة»، ويذهب بها بعيداً في النقد والسخرية والجمال والحب، ليقدّم لنا واحداً من أفضل أفلامه وأكثرها قدرة على تعرية الدكتاتور في ذروة لحظات تصنيعه فعالية وإنتاجية.

الفيلم الذي مُنع لعقود من العرض في سوريا، تمّت استعادته وترميمه مجدداً، وعُرض مؤخّراً في دمشق وبيروت. وهو، إلى اليوم، لا يزال قادراً على تزويدنا بفسحة من الفهم والتشاؤم، والأمل أحياناً، بخصوص سوريا الجديدة التي نراها تولد أمام أعيننا اليوم. 

عندما قدّم أسامة نصّ السيناريو إلى لجنة الرقابة في المؤسسة العامة للسينما التي ستنتج الفيلم، لم تستطع أن تدرك كيف يمكن لنصّ يحكي قصّة حفل زواج فاشل داخل بيئة ريفية في جبال اللاذقية، أن يتحوّل خلال التصوير ومن ثمّ المونتاج إلى فرجة سينمائية من الطراز الرفيع وإلى مضبطة نقد ساخر وجذري، بصري وسينمائي وسياسي، لسوريا الأسد ولحافظ الأسد شخصياً. 

يُحكى أن حافظ الأسد طلب مشاهدة الفيلم شخصيا في القصر الجمهوري ليبتّ بمصير الفيلم. وبعد أن انتهى العرض، ساد الصمت القاعة ولم ينبس الدكتاتور ببنت شفة! وفهمَ الجميع ليس فقط بأن الفيلم سيكون مصيره رفوف الأرشيف، ولكن أيضاً أنّ الجريمة السينمائية التي ارتكبها أسامة محمد هي من الفداحة بمكان، بشكل يشكل خطراً في أن تتحوّل إلى فضيحة كبرى إذا خرجت إلى العلن وتمّ التعامل معها كجريمة سياسية وسينمائية عن سبق الإصرار والترصّد في تعرية الدكتاتور، وبالتالي فمن الأفضل التعامل معها بالسكوت والنسيان وكأنّها لم تكن. 

كان جميع من شاهد الفيلم يعرف أنّ معظم شخصيات الفيلم الذكورية والمتسلّطة والانتهازية والمتعطّشة للمال والجاه، تشبه في مكان ما، في مظهرها وفي تصرفاتها، حافظ الأسد شخصياً، والجميع كان يدرك أن من يتجرأ ويكشف السر ويقول إنّ الملك عارٍ وإنّ هذا الفيلم هو مضبطة عريه، فإنّه سيدفع الثمن غالياً في حياته وحريته. فتواطأ الجميع، بمن فيهم الأسد نفسه، على الصمت.

عندما صنع أسامه فيلمه في الثمانينات، لم يكن الإنترنت والمؤثّرون وصفحات التواصل الاجتماعي جزءاً من واقعنا الاجتماعي، لكنّ الفرجة المبنيّة على صورة التلفزيون كانت، وما زالت، بوّابة العبور لصناعة الدكتاتورية وإشاعة الكذب المعمَّم.

فجهاز التلفزيون المحتفى به في حفلة العرس في القرية النائية في جبال اللاذقية كضيف الشرف الرئيسي، والمتنقل من مكان إلى آخر على طاولة مزيّنة يحيط بها مسلّحان اثنان لا يكفّان عن إطلاق النار ابتهاجاً، هو لا يسجل أحداث العرس وحسب، ولكنّه يصنعها لتنال شرف المرور على شاشته، وإذا دعت الضرورة لتغيب عن هذه الشاشة بالكامل، حتى لو اقتضى الأمر قطع التيار الكهربائي عن العرس نفسه.

في خضمّ أحداث العرس القروي، يظهر على الشاشة طفلان توأمان يغنّيان معاً في مكبّر الصوت أمام الحضور وأمام شاشة التلفاز: بابا اشترى لي هدية، دبابة وبندقية... أنا وخيّي طفل صغير،... تعلمنا كيف ندخل بجيش التحرير.. تسقطْ تسقطْ إسرائيل... تعيشْ تعيشْ الأمّة العربية.

يكتب أسامة محمد في نص بديع نشره في مجلة الدراسات الفلسطينية مستعيداً هذا المشهد: يعلو تصفيق الكومبارس في الفيلم.. وضَحِكُ الضحايا في الصالة (الطفلان التوأم اليوم، ضابط استخبارات برأسين.. في فرع فلسطين!!!).

أمّا أنا، عندما شاهدت الفيلم من جديد في بيروت مؤخراً، فلم أرَ، وعذراً لفداحة التشبيه، في وجهَيّ التوأم سوى وجهَيْ جميل الحسن وهادي العبد الله، المؤثّرَيْن الإعلاميَّيْن ونجمَيْ شبكات التواصل الاجتماعي السورية والمقرّبَيْن من القصر الجمهوري. 

أما المطرب فؤاد غازي الذي لعب في حفلة العرس دوره الحقيقي كمطرب مشهور من منطقة الساحل، فتمّت دعوته لإحياء الحفلة، ولعب توريةً في بنية الفيلم البصرية دور حافظ الأسد في دمشق من خلال اللافتات المنتشرة في كل شوارع المدينة ومحالّها التجارية المزيّنة ببورتريه شخصيّ له وبإعلان عن حفلات مرتقبة كل مساء في النادي الليلي المسمّى باللافتة «القصر» برفقة الراقصة كاميلا. لكن من الصعب تشبيهه بالرئيس الجديد أحمد الشرع الذي خفف ذقنه ولم يحلقها بعد، لكنني لم أستطع أن أمنع نفسي من أن أرى بطقم فؤاد غازي وربطة عنقه ومشيته وتسريحة شعره تشابهاً كبيراً مع بعض إعلاميّي القصر الذين باتت صورهم تملأ وسائل التواصل الاجتماعي كما تملأ ردهات قصر الشعب جيئةً وذهاباً. 

مات الملك عاش الملك

مات الملك عاش الملك في سوريا الأسد في 10 حزيران 2000. أعلنها مروان شيخو بدموعه الكاذبة بكاءً على حافظ الأسد من على شاشة التلفاز السوري، لينتقل بعدها البث المباشر إلى تحت قبّة البرلمان السوري. وإذا بأعضاء مجلس الشعب مجتمعين وبكّائين يتلو عليهم رئيس مجلسهم عبد القادر قدورة قراراً بتعديل الدستور ليصير عمر مرشّح الرئاسة 36 عاما ليتوافق مع عمر بشار الأسد. تمI التصويت برفع الأيدي وعُدِّل الدستور بإجماع الأيادي. 

غاب عن الدكتاتور المأخوذ بالأبدية أن الموت حق، عندما فصّل الدستور على مقاسه في العام 1971 وسمح للرئيس أن يترشّح مدى العمر ووضع شرط أن يكون عمر المرشح 40 عاماً وما فوق ليتوافق مع عمره في ذلك الوقت. فاته أنه سيموت ذات يوم، وسيضطرّ أن يورّث «سوريا الأسد» إلى ابنه بشار.

بعدها بأسابيع، كتب رياض الترك في «ملحق النهار» مقالته الشهيرة «من غير الممكن أن تظلّ سورية مملكة الصمت» محتجّاً على مسرحية التوريث. وبدأت النقاشات تدور بين بيروت ودمشق، وبين سمير قصير والياس خوري وعمر أميرالاي حول ضرورة البناء على شجاعة الترك وانتهاز الفرصة ورفع الصوت عالياً للمطالبة بإلغاء حالة الطوارئ والإفراج عن المعتقلين السياسيين وإطلاق الحريات العامة الديموقراطية. 

أتيتُ من بيروت إلى دمشق، للقاء أسامة محمد في مقهى الروضة. كان الإنترنت بالكاد قد دخل إلى سوريا، ولم نكن نستخدمه بعد في مراسلاتنا الآمنة. لستُ أذكر ما قلته له بالضبط، لكنني أعطيتُه ورقة وحيدة فيها نص صغير مطبوع يتضمّن المطالب الثلاث المذكورة أعلاه، والتي تلخّص النقاشات التي كان هو جزءاً منها. آخذ اسامة نفَساً من أركيلته العجمي، فتح الورقة، قرأها بتمعُّن، ثمّ أخذ نفَساً أطول من أركيلته، وعاد وطوى الورقة ووضعها في جيب قميصه وأومأ برأسه أنّ الموضوع تمّ.  

نعم، الموضوع تمّ، وصار اسمه بيان الـ99، جمع العديد منا التواقيع وعلى رأسهم الغالي الراحل حسان عباس، 99 اسماً من مي سكاف أصغرنا سنّاً إلى أنطون مقدسي أكبرنا سنّاً، مروراً بصادق جلال العظم وعبد الرحمن منيف. وقّع 99 مثقّفاً من كلّ الأجيال والتوجهات بياناً باسمهم جميعاً كمثقف جمعي، وأحدثوا شرخاً في جدار الخوف والصمت ليبدأ منه ربيع دمشق الذي لم تدم نشاطاته ومنتدياته إلا شهوراً، إلا أنّ حلمه بسوريا حرّة ومتعدّدة وديمقراطية لا يزال يعيش معنا إلى يومنا هذا. 

سوريا التي اجتمعنا من حولها باسم مواطنيّتنا في مواجهة الاستبداد، أيّ استبداد كان، لم نقبل يومها ولن نقبل الآن أن نوقّع باسم ديننا أو طائفتنا أو مذهبنا. وقّعنا باسم ضمائرنا، وضمائرنا لم ولن تغرقها دماء مجازركم، القديمة منها والجديدة. 

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
حملة تبرّعات في حمص لمساندة أهالي الساحل السوريّ
اعتقال مئة ناشط في نيويورك 
تحليل

خطوة خطوة، مشهداً مشهداً 

محمد علي الأتاسي
حدث اليوم - الخميس 13 آذار 2025
13-03-2025
تقرير
حدث اليوم - الخميس 13 آذار 2025
التعيينات الأمنيّة والعسكريّة: لا معايير ولا إصلاح 
13-03-2025
تقرير
التعيينات الأمنيّة والعسكريّة: لا معايير ولا إصلاح 
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 13/03/2025