طرح انحسار جمهور الثورة، كما ظهر في بيروت خلال تظاهرة الأحد الفائت، أسئلة عن علاقة الثورة بالفئات الشعبية التي من المفترض أن تكون المكوّن الأساسي لثورة كهذه. أخذت هذه الأسئلة شكل اتهام للناشطين والناشطات، تراوح بين إحساس فائض بالمسؤولية عن تمثيل تلك الفئات أو اتهام باستبعاد تلك الفئات لأسباب طبقية أو خطابية.
تحوّلت الجمعيات ومنطقها المفترض، أي الـ«NGOs»، إلى المسؤول الأول لفشل الثورة باستقطاب تلك الفئات، إمّا لارتباطاتها السياسية أو خطابها الفوقي أو طبيعتها الطبقية. وتوحّدت حول رفضها مروحة من الاتجاهات، قد تتناقض باستنتاجاتها السياسية، لكنّها تلتقي حول ضرورة دفع البعد الطبقي للثورة إلى الواجهة. بيد أنّ الإصرار على «كلمة» الطبقة ورميها في وجه كلمات أخرى يبدو أقرب إلى استعادة أشباح نظرية ممّا هو نقد سياسي، نقد يمرّ بالسؤال التنظيمي كالرابط بين الطابع الطبقي للثورة وترجمته السياسية.
فالثورة، على الأقل في حلّتها البيروتية، لم تكن محصورةً منذ نشأتها ببضعة آلاف من أخصّائيّي النشاط السياسي وبيئتهم. بل تمّ قطع امتداداتها الشعبية وأطر انتشارها شعبيًا منذ الأيام الأولى، عملية قطع ساهم فيها البعض ربّما لأسباب تتعلّق بالحفاظ على طهارة خطابية جامعة.
فالتراجع عن سياسة تسكير الطرقات، مثلًا، قضى على إحدى نقاط الالتقاء مع أهالي الأحياء، نقاط كانت قد بدأت بتطوير علاقات أوسع من حلقة الناشطين والناشطات الضيّقة. كما أنّ فشل التعاطي مع الحزبيّين الخارجين عن أحزابهم أقفل مدخلًا آخر لامتداد الثورة باتجاه أجسام تنظيمية لها بعض الوجود الاجتماعي. ووفق المنطق ذاته، حُصِر التظاهر بالساحة المركزية للعاصمة، وإن بقيت هناك بعض المسيرات التي تجول وفق مسارات محدّدة، ممّا سمح للتعايش بين حالة من الثورة الجذرية في الساحة ومدينة بقيت تتحرّك على إيقاع النظام. أخيرًا، أدّى التمسّك بخطاب ليبرالي عن الفساد إلى إفراغ البعد الطبقي من معناه السياسي، ليتحوّل الاجتماعي من حالة انقسام وثورة إلى خطاب أخلاقي، لم يعد كافياً تنظيميًا.
بيد أنّ سؤال الامتداد الاجتماعي للثورة، وخاصةً في ظلّ الأزمة المالية والاقتصادية، بات يحتاج إلى مقاربة تنظيمية، قد تجد بعضًا من أفكارها في تجربة «المجالس المحلية» في سورية، كما فسّرها الشهيد عمر عزيز. فالثورة، كما يكتب، هي قطيعة في الزمان والمكان معًا، خلالها يعيش البشر بين زمنين، زمن السلطة وزمن الثورة ما ينتج تداخل زمنين، زمن السلطة الذي ما زالت تدار فيه الانشطة الحياتية وزمن الثورة الذي يعمل الناشطون فيه على اسقاط النظام. هذا التداخل هو من طبيعة الثورات، ويطرح سؤالًا تنظيميًا عن إمكانية مزج الحياة بالثورة هو الشرط الملازم لاستمرارية الثورة وانتصارها، أي انطلاق الثورة من أو تداخلها في شروط انتاج الحياة اليومية. وهذا كان دور «المجالس المحلية» في الثورة السورية.
ربّما من المفيد التفكير بتجارب كهذه كمدخل لاستمرارية الثورة وتكثيفها اجتماعيًا. وهي تجارب تنطلق من ضرورة القطيعة مع النظام وسيطرته على إيقاع الحياة اليومية، كما تسمح لبناء علاقات اجتماعية بديلة تنطلق من عملية تداخل الثورة مع الحياة اليومية. قد يبدو هذا خياراً غير واقعي اليوم، ولكن مع الانهيار القادم، قد يكون الخيار الوحيد.