«انشالله بتتهنّوا».
سمعناها حتّى سئمناها؛ سئمناها حتّى فعلناها: استأجرنا شقّةً بمبلغٍ زهيدٍ على أن نستعمل الفارق في ترميم ما يمكن ترميمه. نور أرادت هدم حيطان البلاكين واستبدالها بالزجاج. كان لها ما أرادت. أبي أصرّ على استبدال خزائننا بخزائن جديدة، وكان له ما أراد. استدنتُ مبلغاً من المال قبل اتّساع الحرب وصرتُ أتفادى اليوم الردّ على أرقامٍ لا أعرفها.
قبل الحرب، وقبل أن نتهنّى، قرّرنا البقاء في لبنان رغم كل شيء. فكرة الهجرة لم ترق لنا ولم نكن نريد الاستعجال في الزواج أساساً. تقبّلنا الانهيار الاقتصادي وأكملنا عملنا مرغمين. عشنا خوف الطرد قبلها بسنتين ونفذنا منه، واعتقدنا أنه لم يبقَ لنا ما نخافه. تطوّرت علاقتنا من زملاء إلى أصدقاء بسرعة كبيرة جعلتنا نشكّك بنوع الحبّ المتبادل. نجوت من الإحراج عندما اتّضح لي أنّها تبادلني الإحساس نفسه. خَي. تزوّجنا بعدها بسنتين ورمّمنا الشقّة واستدنت المال وحاولت تسديده.
هدَّدتْ إسرائيل حيّنا بالقصف. سمعتُ الجيران وأصوات دواليب شنط السفر على الدرج. ركضتُ إلى غرفة النوم لأوقظ نور فوجدتها صاحية أصلاً. أبلغتها الخبر بأهدأ ما يمكن. قومي. علينا أن نخلي بسرعة. اتركي كلّ شيء. الشنطة أصبحت جاهزة (كنّا قد جهّزنا أنفسنا لهذا الإنذار، فأعددنا شنطة الطوارئ كما أصرّ أبي، ولكن صندوق الإسعافات الأولية كان فكرتي). تركتُ نور في الغرفة كي تتجهّز واتّجهتُ إلى المطبخ أستعيد أنفاسي. أين سنذهب؟ استعدت في ذاكرتي كلّ من قال لي في الشهر الماضي «إذا عزت شي احكيني»، من دون أن أقدر على تمييز الجدّي من ذاك العابر. قلنا ننزل إلى الكورنيش مع باقي الحي ونرى حينها. علّمتني الحرب في أسبوعين ما عجز معالجي النفسي على تلقيني إيّاه في سنة: إن بعض المشاكل تُحَلّ من تلقاء نفسها وإنّ قلقي عابر وغير مُجدٍ. ربّما سبق أن صاغها أمامي بطريقةٍ أفضل ولكن هذه هي الخلاصة.
اتّصل بي أبي بعدما أرسل خريطة تظهر شارعنا المهدّد.
كريم بعدكن بالبيت؟ دخيلك بيّي اضهروا وتعوا لعندي ناطركن.
مستحيل. لن تقبل نور. ستفضّل النوم في السيارة على أن نقصد والدي.
ايه جايين جايين يلا باي باي
لكن الآن ليس وقت المواجهة ولا وقت الصراحة. ناديتُ نور أستعجلها ولكنّها لم تجب. توجّهت إلى الحمام وطرقت الباب. يلّا بدنا نمشي. خرجت وهي لا تزال بثياب النوم: مش رايحة مطرح. أنهَت جملتَها وتمدّدت على السرير مجدّداً تتابع «الجزيرة» وكأنّ شيئاً لم يكن. لم أعرف ماذا أقول لها، فتصنّعتُ الهدوء.
- ما شفتي الخريطة؟ يلا لازم نضهر
- لازم نضهر؟ مش ضاهرة محل
- ايه لازم لأ شو منبقى تحت القصف يعني؟
- شفت الخريطة، بنايتنا مش بالأحمر
- آه هلّق صرتي توثقي بالأحمر تبع أفيخاي؟
- لا بس شو يعني كلّ يوم هيك؟ بيخوّفوك بتفلّ يعني؟
- انّه شو بتعملي بتضلّك يعني؟ شو بتكوني عملتي؟
- كريم معصّب عليّي الي يعني بدل ما تعصّب عليهن؟ أنا عم بقصف؟ مش ضاهرة محلّ. ضهار لحالك.
«ضهار لحالك»؛ كان فيها تقول خلّيك معي.
جلستُ على حافّة السرير أنتظر القصف. عادةً كان يبدأ بعد الإنذار بنصف ساعة، إن كان ثمّة إنذار. ولكن هذه المدّة أخذت تتقلّص في الأسبوع الماضي حتّى صارت عشر دقائق. أرسل أبي رسالةً صوتيّة: شو طلعتوا؟ عم يقولوا طيران واطي.
طيران واطي، كأنّ الطيران العالي أرحم. يعيش أبي في محيطٍ من التناقضات من دون أن يعي ذلك. أرى بعض صفاته في نور ولكنّي لا أجرؤ على البوح لها. نظرت نحوها علّني أصالحها بنظرةٍ ولكنّ التوتّر الحربي كان سيّد الموقف. التفتَتْ صوبي ثم نظَرت نحو السقف يميناً ويساراً تحاول سماع الطيران. وقفتُ وسحبتُ درفة الشبّاك كي أسمع. بسرعةٍ هائلة شعرتُ بهواء الغُرفة يُسحب للخارج. نظرتُ إلى نور وأغلقنا أعيننا في اللحظة ذاتها. دفعتني موجة القصف نحو السرير مجدّداً ووجدتُ نفسي في حضنها، نشاهد إعادةً لتحذيرات أفيخاي. رفعت نور إصبعها الأوسط نحو الشاشة:
- خود يا أير.