في الأشهر الأخيرة خرجتُ من العالم الافتراضي. صوت الطيران والقصف وحدهما يكفيان للمعلومات. استبدلت الإنترنت بالكتب من جديد وحاولت تفادي النقاشات قدر المستطاع، وفشلت. باغتني أسامة في القهوة اليوم بعدما راوغته لأسبوع.
-شو وين مخبّى ولو ربيع؟ برمت شي ستّ سبع قهاوي ما لقيتك.
قهاوي… وين بعد في قهاوي بالجميزة؟ كلّه كوفي شوبس. ابتسمت له وهززت رأسي يميناً ويساراً. لم أتكلّم محاولاً تفادي الحديث معه. يعتبر أسامة نفسه مختاراً للحيّ وصديقاً للجميع، لكن في الحقيقة، إنّه حبٌّ من طرف واحد. تلفّت حوله في القهوة وسحب كرسيّاً وجلس أمامي. يا رب.
-شو؟ بعدك انت ويارا؟ لونغ ديستانس أو خلص؟
-ليش عم تسأل؟
-ما شي هيك حشريّة… أنا عم ركّب سفرة ع تركيا كمان، قلت بسألك شو الوضع هونيك.
منيح. يمكننا إنهاء الحديث هنا. رجعت إلى كتابي تركته يتأمّل القهوة الخالية. منذ شهرين كانت تضجّ بالأصدقاء والجيران، أمّا اليوم فالجميع بين طرابلس ومرمريس. بعضهم سيكتب فيلماً بهذا العنوان: «بين طرابلس ومرمريس، حكاية لبناني تعيس». سيكتبون القصائد والأغاني ويصوّرون أفلاماً عن مدينة هجروها قبل أن يُهَجّروا منها، وبكوها قبل أن تسقط. قرأت نفس السطر عشر مرّات وأنا أفكّر بيارا. اتّفقنا يوم التقينا أن نذهب إلى تركيا يوم تسنح لنا الفرصة. قرصنّا جميع أفلام نوري بيلجي جيلان وشاهدناها في غرفة نومي في الحمرا. بعد الفيلم الأوّل بدأنا بعادة شرب الشاي يوميّاً وعشنا في هذا العالم لأسابيع. سافرت يارا مع أمّها إلى تركيا بعد الحرب لأسبوع، وتحوّل الأسبوع إلى أسابيع، والأسابيع إلى أشهر. من بعدها، تحوّلت الاتّصالات إلى صوَر والصوَر إلى رسائل.
-وين شارد؟
سألني أسامة وهو يصبّ لنفسه الشاي من إبريقي. تنهّدت وأغلقت الكتاب على سبّابتي اليمنى.
-طيبين الشايات؟
-تقال.
أصبح خبيراً بشاي غيره أيضاً. ما شاء الله. سيسألني الآن عن كتابي، ومن بعدها عن الغداء. هذه كانت عادته، قبل الحرب حتّى على ما أذكر. يبدأ بزيارة القهاوي من الزيتونة باي إلى الجميزة حتّى بدارو، وكأنّنا في الثمانينات. عندما سُئل «ليش ما بتوسّع برمتك؟»، أجابهم أن الحكايات هي نفسها ولكن بالعكس، «ميلة بتكفّي».
-شو عم تقرا؟ رواية؟ قريت الأيادي السود لنجاح واكيم؟ بتعرف أنا وصغير كنت أتغلبط بين مصباح الأحدب وناصر قنديل؟ بحسّ تنيناتهن بيضوّوا… جعنا يا زلمة شو بدنا ناكل؟
كيف أسكتك يا رجل؟ وضعت السماعات وحملت الكتاب لأتفاداه ولكنّه تابع التمتمة وهو يعاين الشارع. رأيت فيه الطفل المتطفّل «كيف وليش، بدّي اسأل، عن كلّ الإشيا، أدرس وأتعلّم…». حشّور كما يقال بالعامية. وحشّور هي المرحلة ما قبل كشتبنجي وخرّاب بيوت. وللحشّور طموح، وطموح أسامة تركيا ويارا في تركيا، فلن أجامله.
-وين شارد؟
يستفزّونك ليخرجوا أسوأ ما فيك، صحيح. لو كان يوم آخر، كنت لأحدّثه.
-ايه؟ وين شارد؟
-شو وين شارد يا زلمة؟ نصّ رفقاتنا فلّوا والنص التاني طلعوا مش رفقاتنا. طيران وقصف وأخبار وشهداء كل يوم. إلي من آب مش قابض ليرة ويارا سافرت. مش عم شوفك لأن ما بدّي شوف حدا. شو بتقلّي وين شارد؟
وقف أسامة وزلع باقي الشاي من دون تردّد.
-طيب برجع بعد الضهر بركي بتكون راقت معك.