- من وين انت يا حسّان؟
- من لبنان
لم يكن جواباً موفّقاً. الريّس كميل كان رئيس البلدية، وجوابي كان نكتة اليوم بالنسبة له.
إذاً أجبته: «من صور».
ابتسم الريّس كميل كمن يعرف الجواب مسبقاً. بلّغنا قبل أن ننزح أنّه مستعدّ لاستقبال عشر عائلات في قريته وليس أكثر، «نظراً لقدرات البلدة والتوازن الديموغرافي». كانت البلدة تحتمل أكثر، ولكن الريّس كميل أثنى أهلها عن المساعدة. أسبوعان وهو يتنقّل بين الجلسات القرويّة لينشر الأخبار الكاذبة بين الأهالي. معظمهم لم يعيروه أي اهتمام، فهم يعرفون الريس كميل و«أخباره».
- نحنا اللي عملناه ريّس.
وقت وصولنا، أمر أبو شادي أبناءه بفتح محلّ الخضار وتصفية البضاعة لإرسالها إلينا، وسعيد اللّحام دفع من جيبه كلفة الفرشات، من دون أن يوصيهم الريّس كميل بذلك. الآن وبعد أكثر من شهر، ضاقت بعينه المدرسة المغلقة.
- والله يا حسّان ما بعرف شو بدّي قلّك، حضرت الأخبار؟
نعم حضرت الأخبار. ستُخلى بعض المدارس في حال عاد التدريس فيها. ويبدو أن الخيار قد وقع على مدرستنا. أمري لله. أرجو أن تكون قد نفعت زياراتي الى أبو شادي فيتوسّط لي. تلَفّت الريس كميل حوله ورفع سرواله من الزنّار.
- تعا تمشّى معي
بئس الزمن الذي أضطرّ فيه مجدّداً إلى المشي مع أحد لإخضاعي. المرّة الأخيرة كانت في مدرسة الراهبات وطُردت أيضاً. حاولت تصوّر الحلول الممكنة ولكنّ المخرج من أزمتنا صعب، صعب. من سيأوينا؟ يُقال إنهم فتحوا مركز إيواء في الكرنتينا، ولكنّه ربما غير مجهّز للشتاء. أصبحت كلمة «ربّما» كافية لتفقدني الأمل بكلّ شيء.
- قلّي من الآخر ريّس كميل، أيمتى بدنا نفلّ؟
ضحك كميل من قلبه والتفت صوبي:
- شو باك ساكت ودغري هبّيت؟ بتعرف خبريّة المكواية؟ قال «هلق بتقلّي جحشك بيلزق على المكواية… هلق بتقلّي كهربتك 110 بتحرقها… وتيابك بيلزقوا… و…
- «كس اختِك ع اخت المكواية»؟
- هههه ايه… «كس اختِك ع اخت المكواية…»، المهم مش رح تروحوا محلّ، بس بدل عشر غرف بدكن تدبروا حالكن بخمسة، عايزين نبلّش مدرسة كرمال الولاد، بتعرف.
خي . لن نُترك إلى مصيرنا. سنبقى هنا ولو في غرف أقلّ. نقلنا أغراضنا إلى الصفّ الصغير المجاور مع عائلة أبو حاتم الآتية من بعلبك، وحاولنا التعويض عن الاكتظاظ بالترفيه عن الأولاد. تولّيت دور الأستاذ اللّعوب بينما أخذَت سميرة دور المديرة الصارمة. من دون الأولاد قد يبدو الأمر مريباً، ولكن معهم أصبحت لعبة تشبه الغمّيضة، مع تدخّل بعض الجيران من وقت إلى آخر. وضعنا بضع القناني الزجاجية في آخر الرواق الطويل ولعبنا البولينغ للمرّة الأولى. مش هيّن أبو حاتم بالبولينغ. نمنا بضع ساعات حتّى صباح الإثنين. انتظرنا مجيء الطلاب على الشبابيك وطال انتظارنا. لم يأتِ إلّا ربع الطلاب. نظر أبو حاتم صوبي:
- شو قولك؟ انزركنا عالفاضي؟
معه حقّ. سنعود من جديد الليلة إلى صفّنا الأساسي. اعتدت الشمس في الصباح هناك وهنا في المقلب الآخر لا يوجد الّا البرد والرطوبة. من يتعلّم في هذا الصف يوميّاً دون الرسوب سأقلّده وساماً بنفسي بعد هذه الحرب. نقلنا بعد خروج التلاميذ وحلول الظلام فرشاتنا إلى الصف الذي بقي فارغاً. عدت لأخذ الحرامات فرأيت عائلة أبو حاتم نائمة رغم شخيره. لا أذكر كيف غفوت، ولكنّي أذكر كيف استيقظت:
فتحت عينيّ فجر الثلاثاء على ضوء قوي جدّاً وصوت الريس كميل في الخلفيّة. فركت عينَيّ ورفعتُ غطائي لحجب الضوء فرأيت كاميرا تجول علينا وعلى أرجاء الصف فيما الريّس كميل يدلي بتصريحاته إلى مراسل.
- متل ما شايف يعني… نحن كيف بدنا نعلّم بالمدرسة والوضع هيك؟
نظرَت إلَي سميرة مختبئة تحت الغطاء: هل نحن على التلفزيون؟ هل هذا بث حيّ؟ كابوس. أرجوك يا الله أن يكون كابوساً.
استيقظ سامر خائفاً:
- بابا رح نرجع نفلّ؟
- لا نام بابا نام ما في شي
هممت في الوقوف لمواجهة كميل ولكن نظرات سميرة منعتني. رأيت العجز في عينيها وعدلت عن رأيي. أيشعر من يشاهدنا الآن بالشفقة أو بالكره؟ أيشعرون بأي شيء أساساً أم أنّنا مجرّد محتوى؟
دفنت رأسي في حرامي، ولكنّه لم يحتوِ غضبي. غادرت الكاميرا الصف نحو أبو حاتم و صوت كميل لا يزال يتردّد في الرواق: يعني أنا قلبي مع الجميع بس مش عحساب ولادنا.
كلا.
لن تمنعني نظرات أحد من مواجهته. وقفت وخرجت من الغرفة نحو الرواق صارخاً: هاو!
سكت الجميع و استدار كميل نحوي بخطوة الى الوراء أفقدته توازنه، داس على زجاجة بولينغ خلفه وانزلق حتّى ارتفعت رجلاه في الهواء وسقط جسمه ككيس طحين في الرواق الفارغ. صرخ من وجع ظهره مستنجداً، فلم يجد حوله أحداً. كان وحده.
- سلامتك ريّس كميل. بس لو بتوطّوا شوي صوتكن لو سمحتوا.