فكشن
سلسلة
الحرب على لبنان
عمر ليزا

الدني بتهزّ، ما بتوقاع

ورقة، قلم، طائرة (4)

7 تشرين الثاني 2024

«بس ترجع، عاملتلك مجدّرة»

كانت أمي تكره مدّ الطاولات بقدر ما كانت تحبّ الطهي. عندما كنت في التاسعة من العمر، وقعت طنجرة الضغط منّي على درج البيت و انكسر الغطاء. كادت أمّي أن تنهار.

- كلّه بيتعوّض إلّا الصحّة، والبريستو.

رفض جارنا البخيل أن يعيرها طنجرته، فعرضت أن تشتريها منه وقبل. لم نعرف خَير هذه البيعة من شرّها، حتّى وصلت من المدرسة يومذاك ورأيت أمّي محاطةً بالجيران على أرض المطبخ.

- اسكت، منيح اللي بعدها طيبة.

انفجر ضغط الطنجرة وأطفأ عينَي أمّي لكنه لم يطفأ بسمتها.
علّمتني الطبخ عنها. كانت تكيل بيديها المقادير قبل أن أبلغ وتصبح يداي كبيرتَين. من شرفة منزلنا، كانت تصغي إلى الشارع وكنت أصف لها ما كانت تغفل عنه. بعد أشهر، تشجَّعت أخيراً و نزلت إلى الشارع. رافقتها إلى الفوّال ماسكاً يدها. أصرّت على إلقاء التحية باليدّ على الجميع وذهبنا بعدها معاً إلى السوق. أذكر يومها فرحة أمّي بالمشوار والضوضاء، وأنا أبكي خفيةً، وأمسح دموعي بالكمّ الأيسر كي لا أفلتها من يميني. قالت لي يومها: اليوم أحلى نهار بحياتي. لو كان بإمكانها رؤية الناس التي تفادتنا يومذاك لما قالت هكذا. يا حبيبتي يا أمّي.

بعد اتّساع الحرب نزحنا إلى بيت خال أمّي في المتن الأعلى. أحبّت أمّي أصوات المدرسة بجانبنا.

- شايف لو ما في هالولاد، كان طقّ قلبي…
- يلّا، لاحقين نرجع لبيروت وعجقة بيروت…

حرصت على الترفيه عنها أوّل أسبوعين وكنت أخبرها التطوّرات اليومية. لم يتسنَّ لنا نقل التلفزيون وأمّي لا تحبّه أساساً. تحدّثنا كثيراً عنها، عن أبي، عن الحرب وعن الصنوبر. كانت قادرة على تمييز رائحة شجر الصنوبر من السنديان، عن بُعد! عندما سألتها كيف، أجابتني:
نحنا بالمتن: يا صنوبر, يا سنديان.
واحد بيخلّيك تحكّ، واحد لأ.
إذاً لم تكن الرائحة. أسأت الحكم.

في الأسبوع الثالث، تلقّيتُ خبر قصف شارعنا. لم أخبرها. وصلني فيديو أيضاً ولكن لم أشاهده إلّا بعدما خرجت من البيت.

- وين رايح؟
- بدّي انزل مشوار ع بيروت جيب كم غرض من البيت.
- طيّب خدني معك.
- لا لا نازل وطالع مش حرزانة.
- طيب… سلّم! قلّها لأم سمير أنا نازلة جمعة الجاي ما دام خفّ القصف.

غادرت المتن وشاهدت الفيديو. ليتني لم أشاهده. طول الطريق وأنا أبكي بيتي وحيّي وجيراني الذين بقوا هناك. اعتصر قلبي وأنا أسمع أحد الشباب في الفيديو يبكي ويبحث عن أمّه بين الأنقاض. وصلت إلى البيت تحت صوت أم كامل ولم أجده. لم أجد سوى بلكونتنا على طرف تلّة الركام. لم أجد صور أمّي القديمة. إنّ بيوتاً بحيلها قد تبخّرت فكيف بالصور؟ جررت نفسي نحو السيارة وأنا أسمع صراخ البحث عن الناجين، وصافرات الإسعاف. يا الله.
لم أفكّر إلّا بأمّي. ركبتُ سيارتي محاولاً تركيب الخبر: كيف أبلّغ شخصاً أن ما لا يراه، لم يعد موجوداً؟
هل الأشياء تكتسب المعنى برؤيتها؟ أم باختبارها؟
أتأوينا بيوتنا أم نحن مَن يأويها؟
أمكتوب علينا أن نفضّل الذكرى على الحاضر؟
كيف سأخبر أمّي أنّ كلّ ما رأته عيناها اختفى، وكلّ ما لمسته أصبح غباراً؟
وصلت اليها آخذاً قراري. الحرب ستطول. سأخبرها رويداً رويداً . بيتاً بيتاً. لن أخبرها أنّ الحيّ قُصف بأكمله في ثوانٍ. نعم هكذا أفضل. قُصف مدخل الحي، من بعده الجيران، ومن بعدهم بيتنا، أو شيء من هذا القبيل.
دخلت البيت وأغلقت الباب على مهل.

- وليد؟ أنا ع البلكون.

توجّهت صوبها وحاولت تمالك أعصابي.

- ليش عم تمشي هيك؟
اقعد, دقّلي أبو سمير خبّرني كل شي.
الدني بتنهزّ، ما بتوقاع.

سلسلة

الحرب على لبنان

«ورقة، قلم، طائرة»، سلسلة يعدّها عمر ليزا، بحثاً عن شكلٍ مغاير لبعض الأخبار المتداولة في ظلّ الحرب.

أرى نفسي في مرآة المصعد كل يوم | يوميات
انشالله بتتهنّوا | يوميات
رينو | يوميات
الحدود | فكشن

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
فكشن

الحدود

عمر ليزا
جماهير «باريس سان جيرمان»: الحريّة لفلسطين
مطار بيروت يعمل بشكل طبيعي
فكشن

الدني بتهزّ، ما بتوقاع

عمر ليزا
37 شهيداً في عدوان يوم الثلاثاء 5 تشرين الثاني 2024