في مصلحة الشعور الكبير بالانتماء المتخيّل، تأتي المحاولات لترويض الثورة، وجعلها متجانسةً ومنضبطةً تحت معايير الاحتراميّة السائدة. لكن، كما يعلم كلّ ساكن في بلد مواسير الصرف الصحّي الصدِئة، لا تحاول إخفاء برازك بورق التواليت، فلن يطعمك ذلك سوى الخرا. وهذا المقال عن مختلف أنواعه:
مناطقيّ
متى ذهب الثوّار من بيروت إلى المدن والمناطق الأخرى، اعتُبر عملهم ذاك سياحة ثوريّة. ومتى حصل العكس، اعتُبر تجاوزاً في تذكيرٍ بأنّ المناطق حكرٌ على القاطنين فيها، على بعضهم طبعاً، فقط أولئك المنتمين إلى الطائفة والطبقة والجنسيّة الصحيحة. لعبة يانصيب أو حزّر فزّر عن الأماكن التي يحقّ للناس الاعتصام فيها.
أنت فلسطينيّ؟ لا تخرج من المخيّم.
سوريّ؟ لا تتواجد في الشارع بعد الثامنة مساء.
لبنانيّة شيعيّة؟ سيسمح لك، على مضض، التظاهر أمام المحكمة الجعفريّة.
طرابلسيّون؟ لا تتجرّأوا على الخروج من مدينتكم، أو كونوا مستعدّين إلى أن تُتركوا وحيدين في الشوارع، تحت عنف قوات الأمن، عندما تأتون إلى بيروت منتفضين، متى تأفّف الذَّوْق البيروتيّ العامّ من وسائل نضالكم. منذ أسبوعين، انسحبت الوجوه المألوفة من الشوارع لدى قدوم «الغرباء/ الزعران»، في استخدامهما التّبادليّ. لأنّ البعض يشاء الثورة نظيفة، يعامل من لا يشبهه كالقاذورات. يبتعد وينفر. يساهم في جعل العنف أكثر وطأةً على من يعتقدهم مجموعةً متجانسة من الناس الآخرين.
طبقيّ
منذ أسبوعين، اعتدى متظاهرون على سائق سوريّ، محاولين إخراجه من سيارته وكسر النافذة. اعتدوا عليه لأنّه سوريّ. لم يكونوا من الوجوه المألوفة. كانوا قادمين من بعيد، جالبين معهم حقدًا طبقيًّا توجّه في لحظة غضب إلى المرمى الخطأ.
ما معنى أن نتّهم هؤلاء بالعنصريّة، متى كانت طبقتهم مكتوبة على الجبين، صارخة وواضحة؟ هل نعيد إنتاج سرديّة المدّ الأزعر الذي يصل إلى مُدننا ويرهّب سكّانها؟ شخصيّة الأزعر نفسها التي ينتجها الخطاب العامّ: ذاك اللاجئ المتحرّش باللبنانية، أو النازح الذي يسيل لعابه لدى مرأى نساء المدينة، وإن لم يكن «أزعر»، أي كان لبنانيّ الجنسية من طبقة متوسطة وعالية، يقع اللوم على النساء؟ أم هل لا نلومهم، لا نحاسبهم، بسبب الصعوبات الهيكليّة التي حالت بينهم وبين اعتبار العامل السوري شريكاً في الوجع والنضال؟ المسألة طبقيّة، ويصبح تشتيت الانتباه سهلاً متى لُفِّقَت التُّهم ورمتْها سرديّة السلطة إلى ملعب الشعب، فتراشقوها فيما بينهم، قنبلةً يدويّة، من شخص لآخر، بين المواطنة والهجرة، بين المركز والأطراف، بين أنواع من اللجوء المختلفة، وبين العنف والسلمية، بين المعرفة وعدمها. فنطرح التساؤلات الحاملة بين طيّاتها طابعًا متعاليًا: ماذا لو لم يكن لهؤلاء المعتدين ولوجٌ إلى المعرفة؟ هل نخلي سبيلهم من المساءلة؟ نقول: معتّر، ما بيعرف، في محاولة جديدة لتطهير الثورة.
عنصريّ
ما معنى أن نريد ثورةً نظيفة؟ أعطتنا قوى الأمن مثالاً. أرادتها نظيفةً أمام مبنى الأمم المتحدة في الجناح، فقامت بجلب شاحنة النفايات إلى موقع اعتصام اللاجئين الأفارقة، لترمي بأغطيتهم وأغراضهم الهزيلة في المزبلة. يندرج ذلك ضمن تكتيكات سياسات الإضعاف والتجويع والتبريد، ضمن التمويت البطيء لـ«الغرباء» والمهمَّشين. فالأرضيّة جاهزة لحملة «التنظيف» هذه، من خلال التطبيع اليوميّ لكبّ وإحراق أغراض العمّال والعاملات المهاجرات، من أجل «صحّة» اللبنانيين، وقايةً من الإيبولا والكورونا وروائح التوابل والذَّوْق اللبناني العامّ.
تُطهَّر الشوارع من المتظاهرين: يحرق الشبيحة خيمَنا ويستولي المرتزقة على أغراضنا في ما يسمّى بـ«الكرّ والفرّ». أمّا أن توضع ممتلكات المتظاهرين الأفارقة في شاحنة النفايات، فلا كرّ ولا فرّ فيه، بل تصريح بأنّ قوى الأمن تعتبر المزبلة هي المكان المناسب لنضالهم. عن القاذورات إذن نتحدّث، عن لحظة انفتاح البالوعة وبداية ظهور القرف.
ستفيض مواسير الصرف الصحّي علينا قريبًا. فاضت على المهاجرين واللاجئين حتّى أغرقتْهم. ومتى غرقوا، ترحّلوا، انسجنوا، يكون الدَّوْر على الآتي: أنواع الخرا التي نحاول قمعها في مخيّلاتنا بالترداد المتواصل، أنّ تاج راسي الوحيد هو لبنان.