تعليق الحرب على لبنان
سامر فرنجية

عن عنف الحرب القادمة

16 تشرين الأول 2024

عن أشكال الحرب الداخلية

ربّما جراء سيطرة صور «الحرب الأهلية» على مخيلتنا، لا نستطيع تخيّل الحروب الداخلية إلّا كتكرار لشكل الحرب التي عشناها بين عامَيْ 1975 و1989، مع ميليشياتها وخطوط تماسها وتدخلاتها الإقليمية وطقوس عنفها. لكنّ الحروب تأخذ أشكالاً مختلفة، والتطمينات بأنّ الأوضاع اليوم تختلف عمّا كانت عليه عشية الحرب الأهلية، قد لا تنفع. فما يتخمّر تحت العدوان وإلى جانب النزوح وبين الأسطر، هو دوّامة عنف، تنذر بحروب داخلية، دوامة عنف تعود جذورها إلى ما قبل العدوان، لكن آثارها ستبقى بعد انتهائه. قد لا نكون عشية «حرب أهلية» بين طرفَيْن. لكنّنا أمام احتمال حروب داخلية، أقرب إلى حالة معمّمة من العنف اليومي، تمحو الفارق بين حالة السلم والحرب وتواريخهما. 

هذه الحالة من العنف بدأت البلاد تتحضّر لها منذ سنوات. 


الشماتة كمدخل

لا داعي للاختباء وراء إصبع الخطاب الوطني والمبادرات الفردية، فالشماتة باتت الرياضة المفضلة اليوم عند خصوم حزب الله أو حتى عند كل من ليس من بيئة حزب الله. هي شماتة بدأت ببعض الحالات تخرج إلى العلن، في ابتسامة صفراء أو تعليق ضمني أو صمت لا مبالٍ. لا داعي للمكابرة على الشماتة، فهي لا تأبه بالخطابات الوطنية أو اللياقات الاجتماعية. وأصلًا، هذه ليست المرة الأولى التي تخرج فيها إلى العلن. ألم يشمت جمهور المقاومة بالاغتيالات وباليوم المجيد وحتى بأهالي ضحايا المرفأ؟ الشماتة هي ما يجمع اللبنانيين ببعضهم بعضاً، كجماهير الفرق الرياضية المتنافسة، وإن كانت المنافسة هنا بالدم والقتل. الشماتة هي كل ما تبقّى كمشترك في هذا المجتمع. 

تشكّل الشماتة أوّل خطوة نحو هذه الحرب الداخلية، وهي إعلان حدود التعاطف الإنساني، والتي باتت تضيق يومًا بعد يوم. 


وسائل الاستياء الاجتماعي

قد لا تهمّ الشماتة إن بقيت مخفيّة، في الحيّز الحميم والخاص. لكن مع انتشار شبكات التواصل الاجتماعي، وتحوُّل محطات التلفزيون إلى مسلسل لـ«معلّقين سياسيين» ليس لديهم إلّا هذا الفائض من التستوستيرون لتبرير وجودهم في الحيّز العام، أصبحت هذه الشماتة، ومعها عنتريات المعلّقين السياسيين، الخطاب السائد الوحيد. فإذا قرّر أبله في غرفة نومه أن يشمت، بات له جمهور وجمهور مقابل. وإذا اعتبر معلّق أنّ الوقت حان لكي يهدّد ويتوعّد ويحذّر، سيجد من يستضيفه لنشر رسالته. ولكلّ معلّق سخيف نظيره من الطرف المقابل، في ما بات يشبه «اقتصاد التعليق السياسي»، هذا الاقتصاد الذي لم ينفع إلّا للحدّ من أزمة البطالة عند الصحافيين. 


تراكم العنف

خارج شاشات الشماتة، هناك مسلسل لعنفٍ بات يبحث عن ضحايا جدد. فـ«نظام الكراهية» الذي بدأ مع مجتمع الميم-عين ثمّ انتقل إلى النازحين السوريين، وجد اليوم هدفًا جديدًا، وهو النازحون من المناطق المستهدفة، أي الشيعة. نفس الروايات عن العادات الغريبة والخوف من السلاح وتحوّل الأماكن العامة والريبة من الغريب انتقلت كما هي من السوريين إلى الشيعة، وإلى جانبها المطالبة ذاتها بأمن يحمي «مجتمعنا» الذي تتقلّص حدوده يومًا بعد يوم. فعندما حذّرنا من «خطاب الكراهية» والعنصرية، لم يكن ذلك دفاعًا عن حق المهمّشين بحياة أفضل وحسب، بل تحذيرًا من أنّ انتشار هذا الخطاب مع أبواقه الإعلامية الوسخة سيتحوّل إلى خطاب كراهية معمّم، يطال الجميع. 


إزاحة العنف

لا أحد بريء من هذا العنف. فقد تزايدت في الأيام الأخيرة صورٌ مقرفة عن «عدالة شعبية»، كنّا أيضًا قد حذّرنا منها في السابق، تطال من اعتبره شباب الحيّ سارقاً أو عميلاً أو دخيلاً على المنطقة، أو مجرّد صحافي. من تعليق أجسادهم على العواميد، إلى الضرب المبرح، مرورًا بتصوير العنف للتباهي على وسائل التواصل الاجتماعي، هناك مخزون من العنف لم يعد يجد منفذاً إلّا على أجساد من هم أضعف. وفي بيئة المقاومة، ليس هذا العنف إلّا إزاحة لعنف مستحيل ضدّ القاتل الإسرائيلي، ومحاسبة ممنوعة لمقاومة فشلت في ردعه. أمّا في البيئات المقابلة، فهو عنف ضد هذه البيئة، عنف ما زال ممنوعًا عليه الظهور علنًا احترامًا للياقات الكره الطائفي. 


عنف ميليشيات الفاليه الباركينغ

وفي الليالي تدور اشتباكات بين مسلّحين، معظمهم ينتمون إلى أحزاب لبنانية باتت أقرب إلى تجمع أصحاب موتورات الحيّ وعصابات الفاليه باركينغ. فلم نعد في زمن الميليشيات الأيديولوجية، هذا الزمن كان ينتمي إلى حربنا الأهلية القديمة. في الزمن الجديد، عصابات تتصارع حول الموارد القليلة المتبقية، من الاقتتال حول محطات البنزين في بداية الأزمة إلى صراعات أصحاب الموتورات ومناطق نفوذهم مع تعمق الأزمة، وصولًا اليوم إلى الاشتباكات حول إدارة النازحين وأماكن سكنهم. 


حربُ لا أحد على أرضنا

عندما صاغ غسان تويني عبارة «حرب الآخرين على أرضنا»، كان يريد التقاط الدور الخارجي في الحرب الدائرة في لبنان. لكنّه كان يريد أيضًا، وإن كان هذا الهدف ضمنياً، أن يفتح المجال أمام وفاق داخلي من خلال لوم الخارج. لكنّ هذه العبارة دخلت في اللاوعي اللبناني كدفع جديد لنرجسيةٍ ترى في هذه البلاد نقطة تقاطع اهتمام العالم كله. هي نفسها النرجسية التي اعتبرت أن لبنان لا يمكن أن ينهار اقتصاديًا لأن العالم لن يسمح بذلك، أو أن الغرب لن يترك لبنان لأنّ «لبنان ليس غزّة». هي النرجسية نفسها التي ما زالت ترفض أن ترى أن لبنان بات بلداً من العالم الرابع، يُنظَر إليه من الخارج «إنسانيًا». وهي النرجسية ذاتها التي لم تفهم أن حربنا الداخلية القادمة آتية لأن لا أحد يكترث بهذا البلد بعد اليوم.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
ميساء صابرين: أوّل حاكمة للبنك المركزي في سوريا
جيش الاحتلال يتوغّل في مدينة القنيطرة السوريّة
7 فلسطينيين تجمّدوا حتّى الموت في غزّة
تعليق

استمرار حرب إبادة ونهاية نظام إبادة

زياد ماجد
تسريبات إسرائيلية جديدة حول اغتيال هنية
الاحتلال يستهدف مستشفيَين في مدينة غزّة