مفاوضات الحكومة
تتسارع الأحداث الماليّة والاقتصاديّة بالتوازي مع تحضّر الجميع لجولات تفاوض شائكة بين مختلف الأطراف المعنية بالأزمة:
- بين الحكومة ووفد صندوق النقد الذي سيحاول الضغط باتجاه أي إصلاحات يمكن أن تكفل استرداد قيمة القرض الذي سيمنحه للبنان.
- بين الحكومة ودائنيها الأجانب الذين سيحاولون تقليص نسبة الاقتصاص من قيمة سنداتهم، وإعادة جدولة الديون بشروط غير قاسية.
- بين الحكومة والاستشاريين المالي والقانوني، «لازارد» و«كليري غوتليب»، حيث سيحاول الاستشاريان إقناع الحكومة بصياغة خطّة عقلانيّة لتحافظ على مصداقيتها أمام الصندوق.
- بين الحكومة والطرف الأكثر وقاحة في كل هذه المعادلة، المصارف، التي لا تحاول فقط تقليص حجم خسائرها الناتجة عن شراء سندات الدين الحكومي، بل تذهب أبعد من ذلك لتحاول تحميل الدولة كلفة خسائر تراكمت داخل ميزانيات القطاع، ولا ترتبط بدين الدولة السيادي.
على هامش كل هذه التحضيرات، تبرز إلى الواجهة بعض المشاهد السرياليّة التي لا يمكن إلا أن يسجّل المرء دهشته على هامشها.
التفاؤل بتفاؤل المصارف
المصارف متفائلة بالنقلة النوعيّة في مقاربة الحكومة لملف الخطّة الماليّة، والتقارير الإعلاميّة تنقل بإيجابيّة هذا التفاؤل الذي يعكس، حسب المصارف، واقعيّة الحكومة وإدراكها للدور المركزي الذي يفترض أن يلعبه القطاع المصرفي في مرحلة التصحيح المالي.
رئيس الحكومة نفسه لا يحاول التملّص من احتفاء القطاع بمقاربته، بل على العكس تماماً، يؤكّد بغبطة تعاونه «الإيجابي» مع جميع الأطراف، وتدشينه مساراً من الاجتماعات المفتوحة مع الجمعيّة، قبل التوصّل إلى خطة التعافي المالي الموحدة الجديدة.
المفارقة الأساسيّة هنا، هي أنّ القطاع المصرفي يُفترض أن يكون الطرف المواجه للحكومة في مفاوضات إعادة هيكلة الدين العام، وتوزيع الخسائر الناتجة عن الانهيار. بهذا المعنى بالتحديد، من غير المفهوم كيفيّة تسويق تفاؤل القطاع المصرفي بهذه الصورة الإيجابيّة، بل واعتبار هذا التفاؤل مديحاً بأداء حكومة ميقاتي.
باختصار، إذا كانت المصارف تعتبر أن حكومة ميقاتي اقتربت من مقارباتها، أو باتت أكثر ليونة في التعامل معها، فهذا يعني أنّ الحكومة تقوم بعكس المهمّة المطلوبة منها، أي التفاوض لمصلحة الدولة، لا العكس.
لا لتوحيد أسعار الصرف
طوال الأشهر الماضية، تمّت شيطنة أسعار الصرف المعتمدة لدعم استيراد السلع الأساسيّة، على قاعدة أن هذه العمليات تتسبّب بتبديد ما تبقى من دولارات المودعين الموجودة في مصرف لبنان، وتعمّق من حجم فجوة الخسائر الموجودة في المصرف. وعلى هذه القاعدة، جرى الانسحاب تدريجياً من أسعار الصرف المدعومة هذه، تمهيداً للمفاوضات مع صندوق النقد. وكانت المصارف المتحمّس الأكبر للانسحاب من سياسة الدعم لحماية دولاراتها المودعة، من مال المودعين، في المصرف المركزي.
أما إساءة استعمال هذا الدعم بشكل متعمّد، من خلال عمليّات الاحتكار والتهريب التي كانت تتمّ على يد كبار النافذين والمدعومين من الأحزاب السياسيّة، فكانت تعزز عملية شيطنة أسعار الصرف المدعومة هذه.
لكن ما إن خرجنا من مرحلة أسعار الصرف المدعومة، حتّى تبيّن أنّ للمصارف أسباباً تدفعها إلى طلب التريّث قبل توحيد أسعار الصرف، وذلك في خطّتها البديلة التي طرحتها مؤخراً على الحكومة. المفارقة السرياليّة هنا، هي أن الطرف الذي حارب بشراسة فوضى أسعار الصرف وتعدّدها، هو نفسه الطرف الذي يرفض اليوم المضيّ بالتوحيد الفوري لأسعار الصرف بعدما جرى رفع الدعم.
باختصار، ثمّة سعر صرف مدعوم آخر، لا يستفيد منه عموم اللبنانيين وربما لا يعرفونه، وهو سعر الصرف المعتمد لاحتساب قيمة الودائع بالعملات الأجنبيّة، التي تترتّب على المصارف كإلتزامات. وطالما أن السعر الرسمي القديم و«المدعوم» هو المعتمد لاحتساب قيمة هذه الودائع، فالمصارف قادرة على إخفاء جزء كبير من خسائرها بهذه الطريقة. تفسّر هذه الفكرة، ببساطة، كمّ التناقضات الكبير الذي يعكسه موقف خطة جمعيّة المصارف الأخيرة.
انسجام الحكومة مع المصارف
كل هذه الأحداث تجري اليوم تحضيراً لمسار توزيع الخسائر، قبيل انطلاق المفاوضات مع صندوق النقد بشكل رسمي ومنظّم. وكما بات واضحاً، تنسجم الحكومة مع اللوبي المصرفي في محاولة التحايل على الأرقام، قبل التوجّه لمفاوضة الصندوق، لتفادي كأس تحميل الرساميل المصرفيّة جزءاً وازناً من الخسائر. ولهذا السبب بالتحديد، من المتوقّع أن تحفل المرحلة المقبلة بهذا النوع من التناقضات الكبيرة والفاقعة التي تخفي في حقيقتها مواربة معيّنة لحماية بعض المصالح.