صباح الثلاثاء، ولم يكن نيترات الأمونيوم قد انفجر بعد، ذهبتُ إلى موعدي الأسبوعي عند معالجتي النفسية. في تلك الجلسة، ساعدتني كي أفهم أنني أكبُت غضبي وأحوّله إلى حزن. حزنٌ يشلّ قدرتي على حبّ نفسي. حزنٌ يجعلني أعاقب نفسي وأحرمها من ملذّاتها. عدتُ إلى البيت، ورحتُ أفكّر بما قالته لي، محاولةً فهمه رغم وَقْعه الثقيل عليّ. وهو ثقيلٌ لأنه صحيح.
حاولتُ استيعاب الأمر، فجلست أكتب أفكاري علّ كتابتها تجعلها أكثر وضوحاً. كتبتُ أنّي لن أكبت غضبي ولن أقمع نفسي من الآن فصاعداً. وهذا الوعد الكبير الذي أطلقته على نفسي، كان أيضًا شكلاً من أشكال عقاب الذات. فكيف لي أن أفكّر بأنّني سأكون قادرةً على الغضب بسهولة، بعدما تعلّمت لسنواتٍ طويلة كبت مشاعري.
أنهيتُ الكتابة وبكيت. لماذا بكيت؟ لا أعرف. ربّما لأنّني حزنتُ مجدّداً لعدم قدرتي على الغضب.
حين وقع الانفجار، كنتُ لا أزال أحاول ترتيب أفكاري المشوّشة. لم أغضب في البدء. حزنت. حزنت كثيراً. وبكيت كثيراً. تألّمت لرؤية كلّ شيء. فعلتُ ما أفعله دائماً. انكبَبْتُ على العمل لأنسى، أو بالأحرى، وفق ما صرت أفهمه، لأعاقب نفسي. نفسي التي خذلتُها مرّةً أخرى، ولم أسمح لها بأن تغضب. لكن هذه المرّة، أدركتُ أنّني قمتُ بذلك، فحاولتُ تصحيح ما اقترفتُه. كلّ هذا الأسى ولم أغضب؟ كلّ هذا الظلم والاستهتار بأرواحنا، ولَم أغضب؟ لماذا أقسو على نفسي هكذا في مثل هذه الأوقات؟
أجبرتُني على أخذ القليل من الوقت لأجلس لوحدي. وحدي مع أفكاري وانفعالاتي وأحاسيسي. لم تكن نزهةً جميلة. ولكنّني غضبت. شعرت به. ذاك الغضب العارم الذي يجتاح كلّ نقطة في جسدي وعقلي. أين أذهب بكلّ هذا الغضب الآن؟ لمَ كان عليّ أن أحاول فهم مشاعري الآن؟ لمَ غضبت؟ كيف يجري كلّ هذا الغضب في عروقي ولا تنفجر؟ كيف يغضب الآخرون؟ ماذا يفعلون بكلّ هذه الطاقة؟ أين يفجّرونها؟
حملتُ غضبي وذهبت به إلى الشارع، إلى رفاقي، إلى أهلي، إلى حساباتي على وسائل التواصل الاجتماعي، إلى عملي. لكنّ غضبي بقي معي، رافضاً أن يغادرني. فكّرتُ أنّ عليّ، ربّما، ألا آخذ كلام معالجتي النفسيّة على محمل الجدّ. فهذا الغضب لا أريد التعايش معه. أريد أن أدفنه مجدّداً. وليعُد، إن شاء، لاحقاً، وليظهر لي بأشكالٍ أخرى. لم أعد أكترث.
فكّرت بأهلي وكلّ الذين عاشوا الحرب الأهلية وتراكمات القهر والذلّ على مدى سنوات. أيعرفون كيف يتعاملون مع غضبهم؟ هل كان هناك من يساعدهم على فهم ما مرّوا به أيدركون حتّى أن اللاغضب أمر خطير؟ هل هم محكومون أيضاً بجلد الذات ورفض الملذّات؟ ألذلك نتباهى أننا شعبٌ سهل التكيّف؟ ننفض جراحنا، حرفيّاً، ونقوم؟ ثمّ نستمرّ بالعمل، ونقاوم؟ أم أنّنا نوهم أنفسنا أنّنا نقاوم، لكنّنا في الحقيقة نقبل أن يُداس على جرحنا مرّةً بعد مرّة؟
اللعنة على لعنة طائر الفينيق. غضبتُ مجدّداً. اللعنة على كلّ شيء. اللعنة على الغضب، والغضب على اللعنة، وعلينا وعليهم. هذه المرّة، سيثأر غضبنا. سيثأر لنا من كلّ المرّات التي نهضنا فيها بعد نكسة، وكأنّ شيئاً لم يُصِبنا. نحن نُقتَل، ونحن نُقمَع، منهم ومن أنفسنا. لن نُقمع مجدّداً. لن ندفن غضبنا. لن نسمح لهم ولنا أن نخفّف آلامنا قبل أن نُفرغ غضبنا وندفنهم تحته.