كادت المصارف تنسينا جبران باسيل. لكنّ جبران باسيل أبى إلا أن يذكّرنا بجبران باسيل. ساعده على ذلك تلفزيون الجديد الذي فتح الهواء لـحساب جبران من دون حساب. ومن تُراه يحسب الوقت في حضرة رجل العهد القويّ وهو ينظر إلى الثورة اللبنانية بعينَيْ غوبلز، وينظر إلى الحقيقة بعقل نيتشه. فبعد شهرين وعشرين يوماً تقريباً على الثورة، أفصح لنا جبران عمّا تعلّمه. لقد تعلّم أنّ الانطباع قد يغلب الحقيقة، لكنّه يدرك في قرارة نفسه أنّ الحقيقة ستنتصر في النهاية على الانطباع. لن تُزحزح الثورة ثقة جبران بالحقيقة، لأنّ ذلك يعني أن يفقد جبران إيمانه بالوجود.
هكذا تحدّث جبران، قبل أن ينتقل من هذا المستوى التجريدي ليشرح لنا أنّ الحقيقة، في جوهرها، تعني أنّ جبران ليس فاسداً، وأنّ جبران أمضى عمره السياسيّ وهو يحارب الفاسدين. أنّ جبران ليس متواطئاً، بل أنتج خططاً وأطناناً من الأوراق لإصلاح القضاء والكهرباء والنفط والمياه والنفايات والاتصالات والسياسات الماليّة. أنّ جبران لا تهمّه مغريات السلطة، بل فضائل التضحية في سبيل الإنسان والوطن. تضحيات لا تقتصر على الماديات، بل على قبوله بالمشاركة بالسلطة إلى جانب أشخاص لا يصلحون لمشاركته المهمّة التي انتدبه التاريخ لها.
يحمل جبران هذا بعضَ سمات سوبرمان نيتشه، لكنّ قدره يبدو أقرب إلى مأساة سيزيف. كلّما حمل صخرة الإصلاح على ظهره، عادت الظروف المحيطة لتُدحرجها إلى الوراء. حتّى مَن اعتقد جبران أنّهم سيساعدونه في هذا الحمل الثقيل، حوّلتهم الأرواح الشريرة إلى قيود. فرئاسة ميشال عون التي كان مكتوباً لها نجاحٌ منقطع النظير، باتت عائقاً أمام انتقال جبران إلى المعارضة فيما عهد عمّه يحترق. أمّا حزب الله الذي يزعم جبران أنّ علاقته الوطيدة بينه وبين التيّار تنبع في العمق من نظرتهما الواحدة إلى إسرائيل، فقد خذله في معركة محاربة الفساد.
يكاد جبران لا يصدّق حصاده المرّ، خصوصاً وأنّه قد أحاط نفسه بثلّةٍ من المصلحين ومكافحي الفساد من أمثال سليم جريصاتي والياس بوصعب. ولولا حظّه العاثر، لتمكّن أيضاً من جمع سركيس سركيس وأبو رخّوصة ضمن كتلته النيابيّة. لا يصدّق حصاده، خصوصاً وأنّه لم يطالب بحصص الفساد إلا من باب حماية الميثاقيّة. لكن لا طائل فعلاً من فتح ملفّات التوظيفات أو البواخر أو السدود أو البركات المتأخّرة للهندسات المالية، وقد بدا واضحاً في سياق المقابلة أنّ كلّ هذه الملفات هي خارج الموضوع أصلاً. فضمن الطقم السياسي الحاكم، ليس جبران باسيل الأكثر فساداً. وقد لا يكون جبران باسيل حتّى الأكثر طائفيةً، وإن كان الأكثر براعةً في إثارة خطاب الكراهية.
لعلّ جبران نال حصّته الأكبر من غضب الناس وشتائمهم بسبب حصاده المرّ بالذات. بسبب مزجه بين الشراهة الاستثنائيّة للسلطة وغياب أيّ إنجازات بعد كلّ هذا اللهاث. أحد عشر عاماً في السلطة من أجل لا شيء. أربع ساعات على الشاشة من أجل لا شيء. لا شيء إلا جبران.