دخل النوّاب المجلس كالفئران. دخلوا مختبئين بمواكبهم الضخمة، متحايلين على الناس، ومحتمين بالجيش وكوكتيل منوّع من الأجهزة الأمنية. لكن الاستعراض الضخم لرجال الأمن لم يكن كافيًا لتمرير النواب. فاستعان المجلس الأعلى للدفاع بأبو خشبة وسرية الخندق لفتح الطريق. مرّ النوّاب تحت حماية حركة أمل التي دخل زعرانها منطقة السراي وكأنّهم مولجون أمنها، وذلك تحت أعيُن القوى الأمنية التي فهم عناصرها أنّهم مجرّد كومبارس قد لا يقبضون معاشاتهم الشهر المقبل.
دخل النواب المجلس كالفئران. افتتح البلطجي الأكبر الجلسة مطالبًا الحراك بتبرير الاعتداءات التي حصلت على سيارات فئرانه. لم يلحظ هذا المليشيوي سخرية مطالبته، وهو الذي صعد سلّم السلطة عبر اعتداءاته المتكرّرة، من حصار المخيمات الفلسطينية إلى الاقتتال الأهلي مرورًا بالخطف على الهوية ووصولًا إلى الاعتداءات على الأملاك البحرية التي اختصّت بها زوجته. لم يلحظ السخرية، كما أنّه لم يلحظ الدستور، فافتتح جلسةً فاقدةً للنصاب، متّكلًا على اتصال بسعد الحريري الذي وعده بحضور نوّاب كتلته.
دخل النوّاب المجلس كالفئران. لكنّ النصاب لم يكتمل. فذهب البلطجي الأكبر وفتح قفصًا صغيرًا من تحت مكتبه، وأخرج منه نوّاب الكتل المعارضة ليستكملوا نصاب جلسته ونهايتهم السياسية. تذكّر البلطجي «٧ أيار» واغتيال الحريري وفزّاعة «القمصان السود»، وابتسم وهو يتذكّر عملية التأديب التي طوّعت الجميع. بعد مرحلة قصيرة أمضوها في الشارع، عادت بقايا ١٤ آذار إلى طبيعتها الأوّلية: فسادٌ ومحسوبيّات يتشاركونها مع الباقين، ممزوجةً بسماجةٍ باتوا مختصّين بها.
اكتمل النصاب. وبدأ الفئران يلعبون دورهم كرجال دولة، يلقون الخطابات الرنّانة، ويناقشون الخطط المستقبلية، ويتراشقون الكلمات الفضفاضة. توالى النوّاب على المنصّة، واحداً تلو الآخر، ليقرأوا كلماتهم، ولكنهم كانوا يدركون أنّها قد تكون المرّة الأخيرة التي سيعتلون بها هذه المنصّة. فهم يعلمون تمامًا أنّ لا مفرّ من الأزمة، وأنّ الانهيار الماليّ آتٍ، في آخر هذا الشهر أو الشهر المقبل بكلّ تأكيد. إنّهم يدركون هذا تمامًا، كما يدركون أن خطاباتهم، كموازنتهم وثقتهم وحكومتهم، ليست إلا أواخر إشارات هذا العهد، عهد الفئران الذين دخلوا المجلس خلسةً.
اكتمل النصاب. وبدأت آخر جلسة ثقة في «الجمهورية الثانية». سقط المجلس النيابيّ كأداةٍ تشريعيّة، وبات أداةً في يد المجلس الأعلى للدفاع وجمعية المصارف والأحزاب الحاكمة. دوره، إن كان هناك مِن دورٍ بعد، هو إعطاء الثقة لحكومة هدفها الوحيد محاولة إرضاء الخارج ريثما يضخّ بعضًا من السيولة باقتصادها المهترئ. ولكنّ الخارج لن يأتي هذه المرّة، مهما هدّدوه باللاجئين أو ابتزّوه بحزب الله. باتت شطارة سياسيّي لبنان تقتصر على المرجلة بمطعم أو الهَوْبَرة عند مارسيل غانم. خارج هذَيْن المكانَيْن، هم مجرّد فئران يختبئون وراء زعران حركة أمل.
ستنتهي المسرحية بعد ساعات، وتنال حكومة الفئران ثقة مجلسها. التصويت لم يجرِ في الجلسة، بل في الشارع. إنّها حكومة نالت حتى الآن ثقة 280 جريحاً، حكومة احتاجت إلى أكبر انتشار أمنيّ في تاريخ «الجمهورية الثانية» لكي تصل إلى مكاتبها، حكومة أطاحت بكامل الأعراف والإجراءات الدستورية، حكومة على رأسها بروفيسور لم يستطع إدارة صفّ في جامعته، فطُلب منه إدارة أزمة.
هذا البروفيسور، مصيره السحل، مجازًا بالتأكيد.