أخبرتنا معلّمة الفلسفة والدين مرّةً أن «ملاحِدة» هي الجمع الصحيح لـ«مُلحِد»، بدلاً من مُلحِدين، وذلك لأنّ هؤلاء ليسوا من العُقلاء، وبالتالي لا يصحّ جمعهم جمعاً سالماً، بل جمع تكسير.
بهذه «القفشة»، عبّرت المعلّمة عن إيديولوجيا السلطة. إنّما «جمع التكسير» ليس مسألة لغوية فحسب، بل هي ممارسة عمليّة تقوم بها محاكم التفتيش في لبنان، بمعاونة الأجهزة الأمنية، وكان آخر فرائسها سعيد عبدالله.
سعيد شاب لبناني/ ثلاثيني/ مُهندس/ عاطل عن العمل/ مُلحد. عادةً، لا يُفتَرض لهذه الصفة الأخيرة أن تكون ذات شأنٍ يُذكَر في تعريف الشخص.
أمّا هنا، فبلى. إذ جعلت من صاحبها هدفاً للسلطة ولشريحة من المجتمع، وورّطته حتى اللحظة بمشاكل جمّة، من التهديد الشفهي إلى الحبس.
اعتُقِل سعيد أول مرّة على خلفية منشوراتٍ فايسبوكية، بتاريخ 30 تشرين الأوّل، حيث بقيَ قيد الاعتقال مدّة 46 يوماً، سيّما وأنّه رفض التوقيع على أي تعهّد أو حذف للمنشورات. خرج سعيد حينها بعد قرارٍ ظنّي بتهمٍ مثل «تحقير رئيس الجمهورية» و«إثارة النعرات الطائفية» و«ازدراء الأديان».
كلّ هذه «تُهَم». وكأنّ الرئيس الذي «كان يعلم» بوجود أطنان الأمونيوم قبل انفجارها ليس حقيراً بالفعل، وكأنّ النعرات الطائفية تُثار من عند سعيد، لا من عند جعجع ونصر الله والحريري وباسيل وغيرهم، وكأنّ الأديان– من المحكمة الجعفرية إلى دفاع البطريرك عن رياض سلامة– لم تعطًِنا ما يكفي من الأسباب لنزدريها.
اعتُقل سعيد، مجدّداً، السبت الفائت، على خلفية منشوراتٍ جديدة انتقد فيها هذه المرّة شخصيّاتٍ سياسيّة، لكن تمّ حذفها– بالقوّة– بعد أن اقتادته مخابرات الجيش من منزله، معصوب الأعين، وأجبره العناصر على الركوع، وفتحوا هاتفه وانتهكوا خصوصيّته. ثم تحوّل الملفّ أمس الإثنين إلى مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتيّة.
بالمناسبة، عثر هذا المكتب على سعيد بفضل وشاية، دَزّة، مصدرها أحد «نجوم» (بالأحرى فُقاعات) الانتفاضة، وهو «الناشط» ميشال شمعون، الذي اتحفنا بأكثر الخطابات شعبويةً وتسطيحاً للسياسة عبر فيديوهاتٍ دورية انتشرت له على وسائل التواصل بالتزامن مع 17 تشرين.
كان شمعون، بفعلته هذه، أوقح من المخبرين، إذ صوَّر منشورات سعيد ونشرها مُحرّضاً على حسابه الخاص، وسمّى قوى الأمن الداخلي مطالباً إياها بالتدخل. ولأننا نعيش في مجتمع المشهدية، ولأنّ متابعي شمعون يتخطّون متابعي سعيد (والذي لا متابعين له أساساً، سوى أصدقائه الواقعيين)، انحاز الرأي العام إلى سرديّة الأوّل، وإلى القوقعة الأخلاقوية التي يرتاحون في داخلها، والتي لا يعكّر صفوها شيء ممّا يحدث حولنا، إنّما يخدشها منشور افتراضي على الفايسبوك.
الطريف أنّ جميعنا يعلم أنّ سعيد يكتب على صفحته ما نقوله في قلبنا يومياً. سبّ الرئيس؟ سبّ الزعيم؟ كفر؟ حسناً، فليسامحه الله– إن وُجِد. أساس المشكلة ليست هنا، ليست كما يصوّرها الأخلاقَويّون، ليست معركةً بين دينيّين ولا-دينيّين. صراع المُثُل هذا إنّما يحجب عنكم صراعاً أشد قساوةً هنا، على الأرض، لا في السماء.
كذلك ليست المشكلة في منشورٍ افتراضي. إنّما المقلق فعلاً، هو جهوزيّة الأجهزة الأمنية لتنقضّ على كلّ مَن تسوّل له نفسه الكلام على «المقدّسات». بلا زغرة، محاكم تفتيش العصور الوسطى، في عزّها، لم تكن على هذا القدر من الجهوزيّة.
لكنّ جهوزيّة الأجهزة، بطبيعتها، استنسابية. انفجرت بيروت ولم تحرّك مخابرات الجيش ساكناً. انفجرت بيروت، ولم يستطع قاضي التحقيق في ملف المرفأ أن يتابع عمله بدون عرقلة، بينما أصدر قاضي التحقيق في ملف سعيد مذكّرة توقيف وجاهيّة ضدّه.
وتريدون منه، أو منّا، ألّا نزدريكم؟
سعيد، مَن تُحقّرون، انطوائيّ– كما يصفه أخوه، له شاشته الصغيرة نافذةً على العالم، وله حفنة من الأصدقاء. سعيد، على عكس اسمه، يائس. أو بالأحرى: تَم تيئيسه.
لم يعد يجد أيّة وظيفة في مهنته. عاطل عن العمل، وللمصادفة، ملحد.
لا داعي للهلع! ردّدْها يا أخي، ربّما تعتاد عليها: ملحد، ملحد، ملحد… وبالمناسبة، جمعها سالماً، ما في أحلى منّه:
مُلحِدون.