دولة السلاح
تدحرجت الأحداث بسرعة منذ لحظة تهديد قائد جهاز الارتباط والتنسيق في حزب الله وفيق صفا للقاضي طارق بيطار، ولحظة عرقلة التحقيقات التي يقوم بها. سرعة البرق هذه أعلنت، وبما لا يطاله أي شك، أن الدولة هي دولة وفيق وحزبه، يفعل فيها وبها ما يحلو له، يحمي فيها من يريد، يهاجم فيها من يريد. أمّا الأطراف الباقية، بمجملها، فليست إلا الصبية الذين يدورون في فلكه، فينفّذون خطوطه العامة والعريضة ويشرّعون الباب أمام كل ما يبغيه.
وكما وفيق كما أمينه العام، الآن وفي السابق وفي المستقبل. ظهر ذلك في تعليقه على جريمة المرفأ وعلى جرائم اغتيال الحريري وحاوي والجميّل وقصير... والمدنيين الذين سقطوا دون أي ذنب، وفي تعليقه على جريمة لقمان سليم، وتعليقه على مواجهة الناس خلال الانتفاضة، وعلى المحكمة المحلية كما على المحكمة الدولية…
فما أن يتم الاشتباه بأي كان، في أي جريمة، إلا ويبادر الحزب، عبر قياداته، إلى كيل كل أنواع الاتهام بحق هذا الاشتباه والتحقيق، والتشكيك فيه، وصولًا إلى تطييره، بحجج واضحة وصريحة: في السابق كان الاتهام الأوحد المقبول هو العدو الإسرائيلي بسبب تربّصه بأمن اللبنانيين. أما في جريمة المرفأ، فيسارع هذا الحزب نفسه إلى رفض الاتهام الإسرائيلي، بل تحويل المسار إلى جريمة قضاء وقدر كما أعلن وزيره حمد حسن في السابق، أو جريمة تلحيم بأحسن الأحوال.
هكذا أعلن حزب السلاح أن الدولة باتت دولة السلاح، دولة حزبه، بأجهزته وأمنيّاته هو، بسطوته، بخطوطه الحمر والخضر والصفر، بقضاياه ومعاييره، بطائفيته ومذهبيته وارتهانه وتبعيته كأيديولوجية وطنية، بعدالته هو.
البريء هو من يقرّر الحزب أنه بريء، والمتّهم هو من يقرّر الحزب أنه متّهم.
وبين هذه وتلك، تستطيع السلطة، الأوليغارشية الحاكمة، تحالف المافيا والميليشيا، إحداث وتفجير واحد من أخطر التفجيرات في تاريخ البشرية، والتنصل منه، بقدرة فائقة.
ارتياب مشروع
هذا ليس اتهاماً، بل ارتياب مشروع في السلوك، علامة استفهام حول توتر وارتباك في حركة. إذ كيف يمكن تفسير سلوك الحزب، والسلطة التي يحميها، واستخدامهم كافة الأسلحة المشروعة وغير المشروعة ضدّ تحقيق يريد مساءلة وزراء الداخلية والأشغال وقادة الأجهزة والمديرين الذين كانوا في مواقع مسؤولية مباشرة منذ لحظة دخول النترات إلى المرفأ وبقائها فيه حتى انفجارها؟
هل هناك تحقيق في الكون لا ينطلق من المسؤولين المباشرين بوصفهم أول من يجب التحقيق معهم؟ ما نوع العدالة والتحقيقات والتحريّات التي يعرفونها ويبشرون بها؟ ما هي هذه العدالة التي تعلن أن المتّهم هو من يجب أن يكون في موقع الحكم على الاتهام؟
تذهب بعض الآراء إلى اعتبار المسمار الذي دق بمسار التحقيق آخر مسمار يُدق في نعش الدولة وعدالتها، إن بقي فيها ما يمكن أن يُطلق عليه تسمية عدالة. إذ يمكن القول إن ما يحدث مع القاضي بيطار ليس مجرد تنصّل من جريمة، بل هو تشريع وإيذان لافتعال غيرها.
هو إعلان بأن البلاد قد فُتِحت أبوابها على جرائم، وعلى تنصّل من هذه الجرائم، ما سيفتح الباب أمام أي أحد لفعل ما يشاء، والاقتصاص ممن يريد، دون حسيب أو رقيب.
حكومة الجريمة وسلطة الحرب
لقد سارعت السلطة إلى التكشير عن أنيابها، بشكل علني، ودون أي رادع داخلي أو خارجي. فقد نالت الضوء الأخضر للجريمة، والتنصل منها، وتشكيل حكومتها.
هذه الحكومة التي أعلن رئيسها في تعليق على تنحية القاضي بيطار: إنّه أمر قضائي لن أتدخّل فيه، متناسيًا أن قرار التنحية اتى بعد الرصاص العشوائي على القاضي وعلى تحقيقه. فهذا تهديد يصنّفه ميقاتي في خانة القضائي، على ما يبدو، ذلك لأن طقس التنازلات التي قدمها للوصول، يحتّم عليه انتزاع الأمور من سياقها ليبرّر لنفسه ولحكومته عدم المواجهة، وعدم حماية ما تبقى من عدالة في بلد يعيش جريمة مستمرة.
إن كل ما جرى ويجري يكشف للعلن أن السلطة لم تعلن الحرب على الناس فحسب، بل أعلنت أنها هي الحكم في تطبيق العدالة، وفي محاكمة من أعلن الحرب. كيف لا وهي السلطة التي ترعرعت، ونشأت، واستحكمت، في حرب أهلية وقع ضحيتها ما يقارب المئتي ألف قتيل ومفقود ومخطوف ومعوّق؟ وهي ذاتها التي التزمت إظهار العدالة بملف الحرب الأهلية، فسارعت إلى العفو عن نفسها، وعادت واستحكمت لتعيد الكرّة، فعفت عن نفسها من جديد بعد حوالي الثلاثين عامًا، وبهذا الشكل؟