يوميات عقاب النسيان
حسن الساحلي

رحلة في عوالم شارع بلس السفليّة

2 تموز 2023

يعتمد هذا النص على سيرة سجين سابق (رفض ذكر إسمه) تم القبض عليه عام 2020 في مداهمة لمنزل عائلته بحجة أنه تاجر مخدرات. كان الشاب حينها في بداية العشرينات وعلى وشك إنهاء شهادة المسرح في جامعة القديس يوسف. يتّضح من روايته للأحداث أن الاستهداف حصل بدون دلائل كافية، وقد تكرر الأمر نفسه مع زملاء سابقين في الجامعة، تعرّضوا للتعذيب والاحتجاز لفترات طويلة. تضيء الشهادة على أساليب عمل الأمن اللبناني الملتبسة في التعامل مع هذا النوع من القضايا والميل لاستغلال السلطة بطرق غير أخلاقية. علماً أنّ الشاب لا يزال حتى اليوم يحاول تجاوز الآثار والصدمات التي خلفتها التجربة عليه، بكل ما تضمّنته من تعذيب وعنف جسدي ونفسي.

الحياة كمادّة اتّهام

استباح الأمن ذاكرتي. فتح صوراً وفيديوهات قديمة لي على الكومبيوتر. يوميات في المنزل وسهرات في الطبيعة أو على البحر. جلسات حميمية مع أشخاص انقطعت العلاقة معهم منذ مدة طويلة. شريط حياتي تحول إلى مادة اتهام ضدي. 

لم أعرف إن كانوا يبحثون عن دليل، أو أنّهم يستمتعون بالتلصّص على عالمي فحسب. لكن، تدريجياً، بدأ المحقق يطرح أسئلةً محدّدة: هيدي حفلات التكنو اللي بتتعاطوا فيها؟ مين هيدا اللي حامل السيجارة؟ بدك جبلك مكتب الآداب؟ كيف بنت طيبة بتصاحب حشّاش لوطي متلك؟ 

قال إنهم يراقبونني منذ فترة، والمضحك أنه أخرج صوراً مطبوعة لي مأخوذة من فيسبوك. كان شعري حينها أطول من المعتاد، وأظهر في واحدة من الصور وسط ساحة الرقص مرتدياً النظارات الشمسية. 

فهمت لاحقاً أنّ قضيتي كانت جزءاً من سلسلة قضايا تعود إلى أكثر من خمس سنوات إلى الوراء، أغلب أسمائها من تلاميذ جامعتي. في كلّ مرة يلقى القبض على شخص جديد، يحصلون عبره على أسماء جديدة، وهكذا دواليك. خربوا بيوت عشرات الأشخاص، وهناك من تعرّض للابتزاز من أجل دفع مبالغ مقابل الخروج.  

خلال التحقيق ركّزوا على حبيبتي السابقة لأنها تظهر في الصور شبه عارية. حجّتهم أنّها تحمل «جوينت» ولا بد من التأكد أنها «نظيفة». وحين أتت، وضعوني بمواجهتها. أرادوا توريطها بالحديث عنّي، لكنّهم لم ينجحوا. مع أنها قالت في البداية إنّي مَن كنتُ يشتري لها، عادت وتراجعت بعدما فقدتُ أعصابي أمامها. نعم، كنا على علاقة وأشتري لك ولي. لكن ليست علاقة تاجر مع زبون.

لم أعرف تحديداً كيف انتهت القصة معهم، لكن الأكيد أنّ فحصها أتى سلبياً وصار من الصعب عليهم حجزها لفترة طويلة. من بعدها اتصلوا بأشخاص آخرين. زملاء سابقين في المدرسة والجامعة كانوا قد أصبحوا جزءاً من الذاكرة وانقطعت العلاقة معهم. خطإي أني تركت الكومبيوتر يفرز الصور بحسب الوجوه. بعض الأسماء كانت مسجّلة، لكن لحسن الحظ صودف أنها خارج لبنان أو لم يتمكنوا من الوصول إليها. 

في النهاية، أتتهم جائزة ترضية على شكل رسالة وصلتني على واتساب يقول صاحبها إنّ الـLSD الذي طلبناه وصل إلى لبنان، ويمكنني الحصول عليه. لم أكن أمتلك المهارات الكافية التي تسمح لي بإخراجه من الورطة. كان شابّا بسيطا يتعلم في الجامعة الأميركية، أجبروني على لقائه في مكان قريب. كانت تجربة حقيرة. حتى اليوم لا أستطيع نسيان نظرة الرعب في عينيه عندما شرّعوا أسلحتهم بوجهه.


مخطوف من دون فدية 

بين جولات الأسئلة التي لا تنتهي، كانت هناك جولات من الضرب والتعذيب تزداد كثافة عندما أرفض التعاون معهم. استعمل أحدهم عصا بلياردو، حصل عليها من مداهمة في اليوم السابق، بينما ضربني آخر بواسطة «آنتين» سيارة قديمة، ما خلّف ندوبا عميقة في جسدي.

كنت أشعر كأني مخطوف من عصابة لن تتوانى عن استعمال أي طريقة تعذيب نفسية أو جسدية لتحطيمي. لذلك، كان عليّ البقاء متماسكاً وعدم الانصياع لهم. أذكر أنّ المحقّق طلب منّي مرّةً الركوع أمامه. شعرت حينها أن ذلك سيعني هزيمتي ورفضت. قاومت بكل عزم الضرب إلى أن تمكنوا من إيقاعي أرضاً. لم أتراجع، بل انبطحت على بطني بينما انهمرت الركلات والضربات على جسدي.    

أغضبَهم ربّما عدم وجود ما يدينني، باستثناء الرسالة الأولى التي أدّت لمداهمة منزلي. بقيتْ حتى النهاية حجّتهم لإبقائي موقوفاً. عثروا عليها على هاتف صديق سبقني إلى حبيش، كان يخاف الصعود إلى «أبو سلّة» في الفنار، لذلك اشتريت له في طريقي. طبعاً، عوضاً عن ملاحقة «أبو سلّة»، وهو رأس الهرم المحمي أمنيّاً كما يتضح من طريقة عمله خلال تلك الفترة، جرى استهداف أشخاص من أمثالي. لكن لحسن الحظ أن صديقي لم يورّطني أكثر في المواجهة بيننا، وصادق على كلامي. 

مع الوقت، اتضح من مسار التحقيق أن المهم بالنسبة لهم لم يعد مصدر المواد التي كنت أشتريها، بل علاقاتي مع الأصدقاء وكمّ المعلومات التي يمكن الحصول عليها عنهم. ركزوا بشكل خاص على زملاء الجامعة من مرتادي سهرات الـRaves الظاهرين في صور اللابتوب. هم ربما الفئة المفضلة عندهم لأنهم أولاً من الميسورين مادياً، وثانياً، لأنّ نمط حياتهم وسهراتهم غالباً ما يترافق مع استهلاك نوع من الموادّ المنشّطة. 

ما أعطى الأمن أفضلية قانونية هو القدرة على اللعب على الحدود الفاصلة بين الترويج والتعاطي. مثلاً، استعمال تعابير معيّنة في المحضر مثل أشتري مادة معينة من صديق يضع الأخير مباشرة تحت تهمة المروّج او التاجر (من ثلاث إلى خمس سنوات سجن) أما إن قلت أنكما تذهبان سويّاً لشرائها، فتبقيه تحت خانة المتعاطي (يمكن أن يخرج في 48 ساعة). 

هكذا يصبح من السهل تحديد مصير شخص بسبب قرارات اعتباطية تبنى على أساسات غير ثابتة، ما يعني انتزاعه من حياته الخاصة وإعدامه اجتماعياً بعد رميه في عالم سفلي لا يمكن الخروج منه.  


عزلة داخل العزلة

بعد انتهاء التحقيق، قرّروا إبقائي محتجزاً في مخفر حبيش لأنّ هناك عدداً كبيراً من الأسماء في الملف وربما يحتاجون إلى مواجهتي بهم، كما قال القاضي على الهاتف. لكن ذلك  لم يحصل يوماً. بعد أسابيع قليلة، بدأت جائحة كورونا تشلّ كل شيء تقريباً. توقّفتْ باصات الأمن عن العمل، وبالتالي لم يعد هناك وسيلة نقل إلى قصر العدل. لاحقاً ظهرت عوائق جديدة تحول دون حصول محاكمات مثل إضرابات العاملين في المؤسسات الأمنية والقضائية وأزمات التمويل بفعل الانهيار.

في النهاية، قضيت أربعة أشهر في مخفر يفترض أنه مكان مؤقت وليس سجناً. أغلب الفترة، كنت من دون نقود بعد تخلّي العائلة عنّي. حجّتهم أنّي شوّهتُ سمعتهم بعد مجيء الأمن إلى المنزل. تركوني هكذا أتبهدل، بحجّة تربيتي وإجباري على دفع ثمن أفعالي. 

لكنّ الاستمرار من دون نقودٍ في مكانٍ معزول لا يؤمّن أدنى متطلّبات العيش، كان كارثيّاً. لا أتحدّث عن الاضطرار لتناول طعام السجن السيئ وحسب، بل أيضاً عن الغرفة التي يختارونها لك بحسب موقعك الطبقي، وظروف العزلة التي فرضتها كورونا، والتي صعّبت التعامل مع العالم الخارجي. 

كنتُ في غرفةٍ أغلب نزلائها من الأجانب، تحديداً أولئك الذين يفتقدون إلى معيل خارجي. عشرون شخصاً توجّب عليهم التنافس على الموارد القليلة في مساحة ضيقة لا تتعدّى مترين ونصف بمترين ونصف. سوريّون من الريف الشمالي، ألقي القبض عليهم إمّا بسبب تهم مرتبطة بالكبتاغون أو بسبب أنواع أخرى من الحبوب، سودانيّان أدخلا بعضهما بعضاً بسبب السالفيا، ولبنانيان من البقاع يعمل أحدهما مع «أبو سلّة»، والآخر أدخلته طليقته بسبب تعاطيه الكوكايين أمام أبنائه. 

الوحيد الذي بتُّ صديقاً معه هو رجل خمسينيّ من غانا لا يتكلّم سوى الإنكليزية ألقي القبض عليه في المطار مع كمية كبيرة من الكوكايين. لاحقاً اعترف لي أنه يتعاون مع تجار مخدرات يوصلون المعلومات للأمن كي يتمكنوا من تهريب كميات أكبر في الوقت نفسه. 

كانوا جميعاً من فئة اجتماعية مختلفة عنّي، إلا أني لم أنزعج منهم بقدر انزعاجي من المكان وما يفرضه من ظروف قاسية. هناك، مثلاً، قانون متعارف عليه في الداخل، وهو أن يبدأ كل سجين في الموقع الأحقر في الغرفة، أي الحمام، ثم يتحسّن وضعه تدريجياً مع دخول مساجين جدد. يستثنى من القاعدة أحياناً كبار السنّ أو أشخاص يختارهم الشاويش بحسب أهوائه. 

لكن بسبب ظروف الجائحة التي أوقفت دخول الموقوفين وخروجهم، كان عليّ النوم لأكثر من عشرة أيام في الحمّام. دفعني ذلك في النهاية للتشاجر معهم كي نتفق على صيغة جديدة. كنت أعرف أن من يترك حقه هنا، يأكلونه حيّاً ويصبح أي شخص قادراً على التطاول عليه. لذلك، فرضت عليهم أن يقع الاختيار كل يوم على شخص جديد ينام في الحمّام، على أن يستمر الحال هكذا حتى تعود دورة الحياة كما كانت. 

واجهت أيضا مشكلة اخرى مرتبطة بتوزيع الطعام، خاصةً حين بدأت تتراجع نوعيته مع تطور الانهيار الاقتصادي. تمّ التخلّي عن وجبة الأرزّ والدجاج الأسبوعية، كما اختفت الفاكهة والحلاوة، رغم أنّ الشاويش كان يصادرها أغلب الأوقات. صار الطعام يغيب أياماً، ما أدّى إلى صراعاتٍ بين الموقوفين. 

في تلك الأيام الصعبة، اضطررت أن استغلّ علاقتي الجيّدة مع أحد عناصر الأمن كي أحصل على كمية تكفيني عدّة أيام والحفاظ عليها في براد خارج الغرفة. ساعدني على ذلك أنّي لبناني ومسيحي في غرفة أغلبها من الأجانب. فالجميع هنا لا يتوانى عن إظهار التمييز على أساس الجنسية أو الدين. 
استغلّيت أيضاً خبرتي في التمريض التي اتّضح أنها في غاية الأهمية خلال تلك الفترة، للحصول على امتيازات أكثر. كان الجميع حينها مصاباً بالرعب بسبب كورونا، ما انعكس بالنسبة لي فوائد سهّلت حياتي مقابل مساعدتي في علاج موقوفين أو عناصر من الأمن.


هل يمكن الخروج من الحفرة فعلاً؟

مضت الأشهر الثلاثة الأولى بأقلّ قدر من الخسائر قبل أن تتدخّل عائلتي أخيراً وتغيّر موقفها منّي. علموا أني غير متورّط بأي شيء خطير، فكلّفوا محامياً للمرّة الأولى كي يسرع في إجراءات المحاكمة. حينها تلقّيت مساعدة مادية منهم سمحت بنقلي إلى غرفة أخرى تضمّ لبنانيّين وأجانب من طبقات أعلى. ثمّ في غضون أربعة أسابيع، تمكّنت من الخروج. 
الآن، بعد ثلاث سنوات على تلك التجربة القاسية، أشعر أنّي لا أزال هناك في عوالم شارع بلس السفلية. أبذل جهداً يومياً في محاولة نسيان الصور والمشاهد التي كنت فيها ضعيفاً أو هشّاً، من إخراجي الذليل أمام عائلتي، حتى البهدلة في غرفة التحقيق، واضطراري للنوم بجوار الفضلات في الحمّام.

اليوم، في كلّ مرّةٍ أسمع قرعاً عنيفاً على الباب، أو أدخل مكاناً سيّئ التهوئة تعبق فيه رائحة سجائر من اليوم السابق، يباغتني الإحساس القديم نفسه بالعجز والاختناق، الذي كان جاثماً يومها على صدري. كأنّ حياتي أصبحت عبارة عن وقوف طويل أمام حفرة أشعر أنّي سأُدفَع إليها في أي لحظة، ويتوجب عليّ من بعدها انتظار التراب ليتساقط فوقي من دون مقاومة منّي.

لم يتراجع هذا الشعور سوى بعدما بدأت بتناول أدوية تخفّف نوبات الهلع. حبّة يومياً لنزع فكرة المستقبل العدميّ من رأسي. مع ذلك، بقيت الحفرة حاضرةً كأنّها شبح ينظر لي من بعيد باستمرار.

صحيح أني تعرفت على أشخاص لم تكن الأقدار لتجمعني بهم، وتعلمت كذلك العيش في ظروف قاسية. لكن، في المقابل، صار عليّ  أن اتعايش مع جانب مظلم من شخصيّتي التي اعتادت ممارسة العنف والشرّ حتى في أوقات لا أكون بحاجة لذلك.

منذ ثلاث سنوات حتى اليوم، أطرح دورياً أسئلةً من نوع: ما الذي يمنع العالم من أن يتحالف ضدّي مجدّداً؟ كيف أستطيع أن أقمع الأفكار التي تباغتني عند كل ذكرى سيّئة؟ هل سيتمكّن شخص مثلي يوماً ما من الخروج من الحفرة؟

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
ما هي الفصائل المُشاركة في عمليّة «ردع العدوان»؟
الراعي جمال صعب شهيدٌ جديدٌ للخروقات الإسرائيلية لوقف إطلاق النار 
قوّات الاحتلال تقتحم المستشفى التركي في طوباس
10 شهداء في العدوان الإسرائيلي على لبنان أمس الاثنين
معارك في دير الزور لطرد الميليشيات الإيرانيّة
81 شهيداً 304 مصابين منذ بداية عدوان الأسد وروسيا على إدلب وحلب