1
لم يبلع الموج رسالتي، فعنوان المُرسَل إليه هنا، قبل الشاطئ وقبل واجهة المدينة المسحوقة.
الرسالة التي أردّ عليها كانت لمن بقيَ هنا؛ ولمّا كنتُ أنا- حالي حال صاحبها- ممّن بقيَ هنا، تملّكتني حشريّة الردّ، لعلّي أقلّص تلك المساحة القائمة على الانتظار.
ففي الانتظار، يُصيبُكَ هوَسٌ برصد الاحتمالات الكثيرة. هوسٌ بتخيّل الأجوِبة المحتمَلة، وهوسُ أن تدوّنها على قُصاصة ورقية لتحذف من دماغك البارد الاحتمالَ تلوَ الآخر:
- ليه مقاطعني؟ تقولُ لَك بعدما توقّفتَ عن المراسلة.
- هاهاه لا مش مقاطعِك. بس انّه… هيك… مش كتير مرتاح بالحديث. يمكن لأن مش مُريح الي صار. انّه ما كان كتير لذيذ.
2
الأصدقاء هنا قلائل. من دُفعَتي الجامعية بقيَ 4 أشخاص فقط. لا أحد منهم صديقي.
راحت علَيّ، أقول مُمازحاً. أتذرّعُ بأخي. هو سافر/ هاجر/ «انتشر» كما يقول العرص البرتقاليّ.
قبل أشهرٍ من الانهيار، فتح الخريطة وانتقى النقطة الأبعد: أستراليا. أتذرّع برحيله لأبقى: نحن قاسمينها، هو بيساعدنا من برّا، وأنا ببقى هون مع الأهل.
لكنّ الحقّ أنّه ذهب بالفعل، من دون أن أبقى أنا مع الأهل. بقيتُ وحدي.
تشكو أمّي مراراً أنّها تشتاق إلَيّ أكثر ممّا تشتاق لأخي المُهاجر. يفوتها أنّه مُغامرٌ شقيّ، وأنّي انطوائيٌّ كارهٌ للاجتماعيّات.
يفوتها أنّ حياته تدور هناك، خارج الانهيار، الانهيار نفسه الذي يرسم معالم يوميّاتي.
3
من يوميّاتي أيضاً أن أقرأ رسائل. ثم أن أتجاهلها.
لكن لمَ لا أردّ على رسالَتك؟ أنا الصديق الذي بقيتُ هنا. مؤخّراً، توقّفت عن مراسلة أصدقائي الذين هاجروا. قررتُ أن أعتبرهم بحكم الموتى. هكذا أفضل لهم. عليهم أن يقطعوا الصلات التي تربطهم بالمستنقع، وعلينا أن نساعدهم: فليعتبرونا أمواتاً.
لمَ لا أردّ على رسالتك، وقد أرسلتُ عشرات الرسائل التي لم يردّ عليها أحد؟ أعرفُ إذاً شعورَ أن تبقى الرسالة عالقة، وأن تبقى بِلا جواب، وأن نطويها مُرغمين في درج الخَيبات. درج الخيبات، ماذا نعرف عنه؟
هاي
إلنا زمان ما حكيناش ولا التقينا
بس انّه ابقي طمنيني عنِّك ع فضاوة
كيفك؟ كيف المود؟
كيف الحياة؟
كيف الجو بالبيت؟
وهيك
🌸
4
هاك، هذا سؤال الـكيفك البسيط الذي تكلّمتَ عنه في رسالتك.
لكنّ المشكلة ليست في السؤال، بل في اللغة بالأساس. في قدرتها على أن تردم ذاك البعد العاطفي: لا قدرة لها. فالواقع أعقد من أن تُعبّر عنه اللغة.
لذلك أسكت. ولذلك أختار أن أرفق نصوصي بتلك الخطوط الخضراء التي غالباً ما تخفي مادّةً أبعد من اللغة.
وبما أنّ رسالتكَ جاءت لتؤكّد أنّك لا تتبنّى سؤال الـكيفك، فلماذا أرسلتَها من الأساس؟ قد يكون من الأفيَد أن نتوقّف عن الكتابة: فمن يقرأ هذه المقالات؟ من يكتبها؟ الأفضل أن نسكت.
لا قيمة لمضمون الرسائل التي نقرّ سلفاً بألّا داعي لها.
قيمتُها أنّها نداءٌ للتواصل، تواصلٌ يشقّ طريقه بين كائناتٍ معزولة بائسة.
لم يكن المُثير إذاً كلمات رسالتك، بل الفراغات ما بينها؛ تماماً كما يُحاجج كلود ديبوسي بأنّ الموسيقى ليست في النوتات المكتوبة، بل في السكوت ما بينها.
5
نحن «الداخل» لم نفقد عمقنا النفسي كما حسمتَ في رسالتك؛ اكتسبناه.
هناك مدرسة في التحليل النفسي ترى أن الاضطراب النفسي، على صعوبته، يقدّم لك امتياز التعارف الصريح على نفسك. يُدخلك إلى الغرفة السوداء، يدلّك على جانبٍ فيكَ كنت تجهله.
فهل كنتَ تحتاج لـ308 حبّات سيبرالكس لتدرك أنّ نظريّتك عن اللطافة لم تأتِ لك بمنفعة تُذكر، وأنّ البَوحَ خطيئةُ الانطوائيّين؟
6
رسالتكَ تلك كانت خروجاً من الصندوق. خروجٌ عن عادة كتابة تعليقاتٍ سياسيّة يوميّة تخفي فيكَ جانباً كنتَ تحجبه. فانتفض الانطوائيّ الذي فيك.
أذكر أنّي كتبتُ مرّة مسوّدةً لمانيفستو الانطوائية. حاججتُ أنّ مجتمعنا لا يزال بعيداً عن فهم تلك الشريحة المعيّنة من الأشخاص. وأنّ الانطوائية وتقلّبات المزاج وكل الباقة تلك، ليست تناقضات ولا قلّةً في التناسق ولا مُراهَقة ولا حتّى إنكاراً. هي فقط أنت.
ببساطة أنت. ما يُحدّدك. لكنك لم تجد بعد مَن يتصالح مع هذا الواقع، وليس لذلك أي أهميّة بالمناسبة.
كسمّه پول ريكور لمّا حاوَل إقناعنا أنّ أقرب طريق إلى الذات يمرّ بالآخر. يمرّ بالـ أحّا.
7
عزيزي سامر، لاحظتُ أنّ رسالتكَ الأولى كانت موجّهة لمن بقيَ هنا، لكنّك مع ذلك أدرجتَها ضمن ملفّ الهجرة. ألم تجد في الأمر غرابة؟ هل بات وجودنا يتحدّد فقط نسبةً لمن رحل؟
توجّهتُ إلى صديقةٍ مرّ على تعارفنا يومين فحسب، خلال زيارةٍ لها وبعد علاقةٍ جنسية: كسمّك، انه شو يعني من كم يوم جيتي وبعد كم يوم راجعة تسافري، وانا اسّا مفروض ازعل بس تروحي؟
لكنّ الحقّ أقول لك: لم أزعل.
الأنيدونيا، أو «انعدام التلذّذ الاجتماعي»: عدم الاهتمام بالتواصل الاجتماعي. انسحابٌ مُجتَمَعي يتمظهر بشكلٍ من قلّة الاكتراث بالغير، وهي حالة تختلف عن الانطوائية والقلق الاجتماعي، مع أنّها تتقاطع معهما.
8
في رسالتك الأخيرة، ذكرتَ أنّك لا تتوقَّع ردّاً بالضرورة.
تُصاحب رسائلنا مشاعر متناقضة: تفاؤل غير عقلاني بتلقّي إجابة، وإدراكٌ ضمني بأنّنا لن نلقاها.
أخاف أن تهزأ منّي ان اقتبستُ لك أغنيةً كردٍّ على الرسالة، وعلى موضوع الرحيل بالتحديد. فهل أقتبس هذه المرّة قصّةً خياليّة لرجلٍ قفزَ خارج مكّوكه وقرّر القطع مع مُحيطه، للانطلاق إلى الفضاء الأوسع؟
منذ أن قرأتُ الرسالة، كنتُ دائم القلق عمّا إذا كان الجواب سيأتي متأخّراً.
معظم الأجوبة تتأخّر. معظم الرحيل أسرع من الردّ.
لكنّ طعم الكرز هنا، وموسم التوت هنا، والرحيل يبدو سخيفاً أمام الأحمر القرمزي.
فهل تؤجّل رحيلك، كي تكتب جواباً على الرسالة، ولو بعد حين؟