الإبادة الجارية
بعد أسبوعٍ على إطلاق المقاومة الفلسطينية عملية «طوفان الأقصى»، اتّخذ الاحتلال قراراً بإبادة غزّة. فحاصر القطاع ومنع عنه الماء والكهرباء والوقود، كما قصف معبر رفح حرصاً على عدم وصول أي مساعدات من الجهة المصرية، والأخطر، حرصاً على عدم خروج المُقيمين في غزّة إلى الخارج. أعطت سلطات الاحتلال مهلة 24 ساعة لأكثر من مليون فلسطيني لإخلاء شمال القطاع، ما اعتبرته الأمم المتّحدة أمرًا مستحيلًا. تجاوز عدد الشهداء عتبة الـ1,500، من بينهم 500 طفل.
قد يكون هذا القصف الأعنف الذي شهدته غزّة في تاريخها، والتصاريح الإسرائيلية واضحة بقرارها تدمير القطاع. لا يبدو أنّ هناك أي رادع دوليّ، بعد الضوء الأخضر الذي قدّمته الحكومات الغربية للحليف الإسرائيلي، أو أيّ رادع داخليّ، مع التطرّف الذي بات سائدًا عند الجمهور الإسرائيلي.
جنون إعلامي، تطرّف سياسي، تساهل دولي: مكوّنات الإبادة القادمة باتت جاهزة.
مفاجأة «طوفان الأقصى»
لم تأتِ هذه الإبادة ردًّا على «الهجوم على المدنيين» كما تدّعي سلطات الاحتلال، بل انتقامًا من عمليّة قلبت معايير الصراع المفروضة منذ عقود من قبل إسرائيل.
قبل الإبادة، أي في اليومَين الأوّلين لانطلاق العملية، كانت المقاومة قد سيطرت على المستوطنات الواقعة في غلاف غزّة، وأسرت أكثر من مئة من الإسرائيليّين وغير الإسرائيليّين، فيما روّجت لمصطلح «تبييض السجون»، في إشارةٍ إلى أسر ما يكفي لتحرير كافة الأسرى الفلسطينيين لدى الاحتلال.
هذا العامل، إضافةً إلى طريقة التسلّل خارج غزّة، برّاً وبحراً وجوّاً، والمباغتة، وكثافة الصواريخ؛ كل ذلك جعل من «طوفان الأقصى» واحدة من أكبر عمليات المقاومة الفلسطينية التي تنطلق من داخل القطاع، وبالتأكيد واحدة من العمليات التي أعادت وضع «تفكيك الاستعمار» بالواجهة، فكرةً وتطبيقاً.
تأتي رغبة الإبادة كردّ على «وقاحة» المقاومة، مقاومة رفضت أن تبقى أسيرةَ يوميّات العنف اليومي.
استعادة الفعل
تجلّت «وقاحة» المقاومة في إنجاز استعادة الفعل، بعد عقود من سجنها بحبس ردة الفعل.
قلبت عملية «طوفان الأقصى» معايير الاشتباك. إنّها أول عملية عسكرية منذ عقود يبادر بها الطرف الفلسطيني ليفاجئ الماكينة العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية. استعادت المقاومة الفلسطينية المبادرة بإعلانها عن توقيت وطبيعة الصراع مع سلطة الاحتلال، ما أخرجها من دائرة ردة الفعل وشروط الاشتباك المفروضة عليها.
استنكر العديد من المراقبين، خاصة الغربيين منهم، خروج العملية عن أي سياق سياسي. أمّا البعض الآخر، فشدّد على عدم وجود تبرير لعملية كهذه في هذا الوقت. هذا هو منطق الاحتلال الذي يحصر الضعيف بحالة الدفاع عن النفس فقط، أو بردّة الفعل لفعل المحتل. لكنّ المقاومة، وبإعلانها ساعة الاشتباك، فرضت تأريخًا مختلفًا للصراع، وهو أن أي عملية عسكرية مبرّرة في سياق واقع الاستيطان والترهيب والقتل، أي عملية، مهما كانت خارجة عن السياق، هي في صلب الموضوع، موضوع الاحتلال.
كسر الطوق الأخلاقي
مع كسرها طوق «قواعد الاشتباك»، سقطت استنسابية ثنائية أخرى، لطالما استعملت لمحاصرة الفلسطينيين، وهي ثنائية «المدني/العسكري».
من جهة، برّرت إسرائيل على عقود عدم وجود ثنائيّة كهذه عند الطرف الفلسطيني، لاستمرارها بالقصف العشوائي والعقاب الجماعي. الفلسطينيون كلهم عسكريون أو «مخرّبون». أمّا من جهة أخرى، فكان اتّهام حركة «حماس» أنّها لا تفرّق بين عسكري ومدني ما يجعلها «إرهابية». الإسرائيليون كلهم مدنيون.
هذه الثنائية ليست محاولة «لأخلقة» القتال، هي أداة سيطرة أيديولوجية بيد سلطات «العنف المنظّم»، لكي تفرّق بين عنفها «المقبول» وعنف خصمها «المرفوض»، أو لتطفي على عنفها بعدًا أخلاقيًا. جاءت عملية «طوفان الأقصى» لتعيد تسطيح هذه الثنائية من خلال رفضها ابتزاز المحتلّ. لا «مدنيين» على هذه الأرض إن لم يتمّ الاعتراف واحترام «مدنية» الضحايا الفلسطينيين.
الضحية المثاليّة وتطبيع العنف
ربّما كان من النتائج الأولية لعملية «طوفان الأقصى» تعريةُ الرأي العام الغربي.
اعتاد هذا الرأي العام، على مدار العقود الأخيرة، على التعاطف مع الفلسطينيين وتطبيع حالة العنف الإسرائيلية في آن واحد. فتطور مع الوقت نوع من التعاطف مع «الضحايا» الفلسطينيين، شرط أن يبقوا «ضحايا» عزّل فاقدين لأي فعالية سياسية غير دورهم كضحايا صامتين. في موازاة ذلك التعاطف اللفظي مع ضحايا صامتين، تمّ تطبيع العنف الإسرائيلي، ليختفي كسبب ويتحوّل إلى واقع شبه «طبيعي». فبات هناك حالة من العنف، لا أحد مسؤول عنها، تنتج ضحايا «غير سياسية»، نتعاطف معهم إنسانيًا.
انتهى نفاق هذا الغرب لحظة انطلاق عملية «طوفان الأقصى»، حيث اتضح أن هذا التعاطف كان مشروطًا بأن يبقى الفلسطينيون ضحايا صامتين. وعندما خرجوا للحظةٍ عن هذا الدور، عاد هذا الرأي العام الغربي إلى مربعه الأول، أي العداء لهذا «الآخر» الفلسطيني والتضامن حتى التماهي الكامل مع إسرائيل. تبيّن أنّ الغرب لم يتعلم شيئًا من عقود هذا الصراع أو حتى من حروبه الأخيرة.
لكنّ كلّ ذلك لم يعُد يعني هذا «الآخر» الفلسطيني. فمع استعادة الفعل، هناك استعادة للكلام. لم يعد الرأي العام الغربي هو القاضي في هذا الصراع على كافة الأطراف. هو اليوم مطالب بأن يواجه تاريخه العنفي واستنسابيته الأخلاقية وتعايشه مع «الإبادات» المنظّمة.
مسار التطبيع المعلّق
تطبيعٌ آخر بات مصيره معلّقاً اليوم أيضًا.
لم تذكر المقاومة أي دلالة محدّدة لتوقيت عملية «طوفان الأقصى». عملية كهذه تتطلّب أسابيع بل أشهراً من التخطيط والتحضير. ربّما من الصدفة أن تكون قد انطلقت في خمسينية حرب أكتوبر، وقد اختتمت موسم الأعياد اليهودية، عيد العُرش، الذي استغلّه الإسرائيليون لاقتحام الأقصى واستفزاز الفلسطينيّين.
لكنّ العملية انطلقت أيضاً بعد أيام على إعلان ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، عزم بلاده التطبيع مع إسرائيل، استكمالاً لمسارٍ عربي طويل ومُخزٍ. بعدما بدا لإسرائيل أنّ السعودية انضمّت بالفعل لقطار التطبيع، تحديداً في 22 أيلول الماضي، عرض رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو خريطته لـ«الشرق الأوسط الجديد» أمام الجمعية العامة للأمم المتّحدة. على الخريطة، بقعة خضراء كبيرة تشمل كافّة البلدان العربية المطبّعة. وخلُص نتنياهو إلى أنّ «عهداً جديداً من السلام» قد انطلق، بعد «التحديث» السعودي، وبعد إبرام «اتّفاقيات أبراهام» عام 2020، والتي طبّعت علاقة كل من الإمارات والمغرب والسودان والبحرين مع الاحتلال، بالإضافة للبلدان المطبّعة سابقاً: مصر والأردن.
محطّات فلسطينية عديدة حاولت عرقلة هذا المسار، و«طوفان الأقصى» أعنفها، سواء من جهة قوّة المقاومة وقدرتها على تغيير الواقع على أرض المعركة، أومن جهة عنف الاحتلال في مواجهتها، بل في إبادة المدنيّين. يضاف إلى ذلك التضامن الشعبي الذي ما زال يتحرّك مع فلسطين عند محطّاتٍ كهذه؛ كلّها عوامل تُحرج البلدان المطبّعة، تحديداً السعودية التي لا تزال على حافة التطبيع الرسمي.