نص انفجار المرفأ
سامر فرنجية

عن دموعٍ نستحي منها

5 آب 2022

لا أدري ما إذا كان النهار مشمسًا أم لا. نحن في شهر آب، والحرّ المعتاد لصيفيات بيروت يشير إلى وجود شمس في مكان ما في السماء. لكن لسبب ما، لم أستطع رؤيتها من شرفتي، ربّما لأنّها مختبئة وراء غيوم أتت من مواسم أخرى، أو لكونها لم تشرق أصلًا اليوم. لا أدري. أغادر منزلي بحثًا عنها، أمشي في شوارع مدينتي، لكن لم أعرفها. بدت غريبة، وكأنّ شيئًا ما تغيّر فيها. لم استطع تحديد ما إذا كانت دكاكين المدينة مفتوحة أم لا. بدت وكأنّها كذلك، لكنها كانت معتمة، فارغة، بلا حركة. أو ربّما كانت مغلقة، لكن فيها ناس، واقفين، بلا حركة، وكأنّهم ينتظرون شيئاً. أنظر إلى المارّة في الشارع، فأشعر أنهم خرجوا من منازلهم مثلي، يبحثون عن سرّ شمس لم تشرق، غير مدركين ما إذا كان هذا النهار يوم عطلة أو عمل، يعاينون الدكاكين شبه المغلقة، ينظرون إلى بعضهم بعضاً، لكن لا يعرفون ما إذا كان عليهم الابتسام أم لا. بدت المدينة وكأنّها لم تعرف ما عليها الإحساس به اليوم. 

أنظر إلى فتاة تشرب قهوة وتضحك. تبدو وكأنّها تعرف ما تشعر به اليوم، فتمسّكتُ بها كمرشد عاطفي لهذا النهار، حتى انتبهت للكلمات الصغيرة المكتوبة على قميصها الأسود: «4 آب». تضحك الآن، لكنّها ستبكي بعد بضع ساعات في طريقها إلى التظاهرة. 

عدتُ إلى منزلي ولم أعرف مدينتي في هذا النهار. كنت قد استيقظت قبل بضع ساعات، معتبرًا أنّني أصبحت آمناً من وجع هذا النهار. بات ورائي، في ماض لم يعد يعنيني إلّا سياسيًا. عامان كفيلان بالقضاء على أي صدمة، على أي إحساس. لاحظت أنّني لم أعد أفكّر بهذا النهار منذ أشهر. حتى صور الغيمة الحمراء لم تعد تحرّك بي أي إحساس. أمّا ذكرياتي الخاصة عن درج معتم، عن أرض رطبة بالدم، عن نظرة عجوز يستوعب أنّ زوجته قد توفّيت، فتكرارها كان كفيلًا بإفراغها من أي عاطفة. اعتقدت أنّي آمنٌ من هذا الماضي، أنني نجحت في تعليب مشاعري، إلى تحويلها إلى خبريات تروى في الأمسيات. اعتقدت كل هذا حتى خرجت إلى المدينة. فوجدتها في هذه الحالة من الضيعان، شمسها مختبئة، دكاكينها خافتة، ناسها صامتون، زمنها متوقّف. المدينة أعلنت حدادًا لوحدها، من دون أي تنسيق أو قرار، حدادًا ناعمًا، خافتًا، جامعًا. حاولت المدينة أن تبتلع حزنها لسنتين، لكنّها لم تستطع. فبدأ الحزن يتسرّب من شمسها المختبئة، من نظرات سكّانها، من جدران دكاكينها، من شوارعها التي حاولت بصعوبة أن تحافظ على طبيعتها. كانت المدينة البارحة مستحيةً بحدادها. 

كان الحداد في المدينة، لا في ساحاتها السياسية. لم ينزل كثيرون هذه السنة، والمحزن أنّنا نعرف مصير هذه التواريخ التذكارية. كل سنة، سوف ينزل ناس أقلّ، حتى لا يبقى إلّا ذوو الفقيد. هذا لا يقلّل من أهمية القضية أو عدالتها. إنّه نتيجة طبيعية للحياة، خاصة ببلد مأزوم، حيث تتكدّس المآسي، تاركةً وقتاً قليلًا لتذكّر جريمة، مهما كانت كارثية. المناسبات الرسمية ليست للحزن، هي لشيء آخر، لإتمام واجب أو التأكيد على موقف سياسي أو للمواجهة. لكن لسبب ما، هذه السنة لم تكن سنة المواجهة، كانت سنة الحزن، حزن دفين، مقموع، مرفوض، غير معترف به. والحزن غالبًا يُعاش منفردًا، على شرفة منزل، وحيدًا في الشارع، في دكان شبه مغلق، وراء غيمة. كانت المدينة البارحة حزينة، تعترف لنفسها أنّ حدادها لم يتمّ، قبل أي مواجهة، قبل أي سياسة.

ما نخشاه عادة هو الخسارة، أو الهزيمة. نخشاه عادة أكثر من الألم، لا نحبّ أن نعترف به. نخاف من هذا الاعتراف، وكأنّ الاعتراف بالهزيمة هو المدخل لشلل قاتل. فنبحث عن الحركة، أي حركة، لكي لا نعترف أنّنا ما زلنا نراوح مكاننا. ننتج تنظيرات مفادها أنّه ليس هناك ربح أو خسارة في السياسة، لكي لا نعترف أنّ وضعنا قد ساء. ونواجه، حتى ولو لم يبقَ أحد في الساحات، نواجه حيطان مجلس فارغ، نصطدم بحرسه، نتنشّق الغاز المسيّل للدموع. وعندما تسيل الدموع، نعتبرها انتصارًا. هذه ليست دموعنا، هذه دموعهم، دموع كيميائية، دلالة عن بطولة مَن بقي في الساحات لآخر ساعات الليل. هذه الدموع ليست دموع ألم، نقنع أنفسنا بهذا. هذه دموع الأبطال الذين لم يعترفوا بالخسارة.

لكنّ الخسارة، مهما كانت مدوّية، لم تكن سببًا للشلل السياسي. نتعلم منها، نعيد تخيّل أنفسنا من بعدها، نستغلها لتحضير مواجهة أخرى. الشلل الفعلي لا ينتج منها. هو يصعد من عمق الألم غير المعترف به، من حالة الهروب الدائم منه، من حالة الرعب الذي ينتجها. نقنع أنفسنا أنّنا نواجه سلطة، لكنّنا بالفعل نتحرّك فقط للهروب من الاعتراف بهذا الألم. فنترك حدادنا مفتوحًا، حتى لا نتألم. لكنّ المدينة البارحة لم تواجه، فعلت شيئًا أعظم. اعترفت بألمها وهي تشاهد إهراءاتها تنهار، في فيض من الرمزية البائخة.

تبدأ الدموع. ليس من غاز مسيّل للدموع هذه المرّة. هذه الدموع منّا، نحن فقط. نستحي بها بالأوّل. لماذا اليوم، بعد سنتين؟ بعد كل شيء؟ بعد حيطان اللامبالاة التي بنيناها لكي نواجه مآسي هذه البلاد المتزايدة. نستحي بها، نحاول أن نخبّئها من المارّة، لكنّهم يبكون أيضًا، كلٌّ بطريقته الخاصة. الشمس تختبئ وراء الغيوم لكي تبكي. الفتاة تبكي وهي تضحك على قميص «4 آب»، المحلات تبكي بنصّ فتحتها. نستحي بالدموع، قبل أن نلاحظ أنّنا نستحي منها. نعتذر من تلك الدموع التي قمعناها وتجاهلناها وضحكنا منها. نستحي منها، فنعتذر منها ونطلق سراحها بعد سنتين من القمع، لأنّنا لم نعد نخاف من وجع هذا النهار. فبكينا البارحة. لكي نواجه غدًا. فلم يعد الوجع يخيفنا.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 26/12/2024 
الاحتلال ينسحب من وادي الحجير بعد تخريب طرقاته
غارات إسرائيلية تستهدف مطار صنعاء ومنشآت نفطية باليمن
عبير رحّال ضحية رصاص زوجها داخل المحكمة 
أهالي معريا السوريّة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي
26-12-2024
تقرير
أهالي معريا السوريّة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي
بلدية طهران تتراجع عن تسمية أحد شوارعها باسم يحيى السنوار