الشعارات والمطالب معروفة، معظمها ليست وليدة هذه اللحظة، لحظة المسيرة. هي نتاج لعقود من النضالات، تجاهلها «الرجال» إلى أن ما عاد يمكنهم ذلك. فبدأ بعضهم السير بمسيرات نسويّة، مساندين «قضاياهنّ» ومتضامنين مع «مطالبهنّ». نهار الأحد هو يوم عطلة أصلًا.
لا يمكن إلّا لرجل، وهو الكائن الأخير القائم «بحدّ ذاته»، أن يصادف «مسيرة اليوم العالمي للنساء» ولا يرى فيها إلّا رجالاً آخرين، رفاقه بالخيال المكتفي بذاته.
لا شكّ أنّ هذه النظرة النرجسية إشارة إضافية للخيال المحدود لرجال لم يضطرّوا يومًا للخروج عن «حدّ ذاتهم». لكنّ هذه النظرة تأتي أيضًا كمدخل لمقاربة صعوبة أخرى، صعوبة الكتابة كرجلٍ عن حدث قام جزئياً على كسر الحصار الخطابي الذي فرضه الرجال في الماضي. هل من الممكن الكتابة كمحاولة لإسكات ذاتٍ قائمة «بحدّ ذاتها»؟
فلنعُد إلى المسيرة. ينطلق الرجال وراء شعارات رفيقاتهم، يرتدون ابتسامة من يريح ضميره مع كل خطوة يخطوها في صباح هذا النهار المشمس. ليس من نفاقٍ هنا، فأحد دوافع التضامن الشرعية هو إراحة الضمير، خاصةً عندما يكون التضامن مع ضحايا«نا». فـ«كلّنا نسويّون»، يردّد الرجال بثقة، قبل أن يستدركوا أنفسهم، «كلّنا نسويّون/ات»، فيبتسمون ويستكملون المسير في هذا اليوم العالمي.
لكنّ مسار التظاهرة طويل. وبعد بضعة دقائق، تبدأ ثقة الرجال بالتصدُّع مع اشتداد اللهجة. يزداد الغضب من حولهم على المؤسسات والقضاء واللغة و…الرجال. يدافع بعضهنّ عن الفضح والقطع والفصل. يلاحظ الرجال أنّ ابتسامتهم في غير محلّها وأنّهم لا يفهمون هذا الغضب في نهار مُشمس كهذا. فالمؤسّسات تحمي «إلى حدّ ما»، وهم يدركون ذلك كونهم «رجال مؤسّسات». ولماذا التعميم أصلاً؟ فهناك هو، هو «بحد ذاته»، هو الكافي بوجوده لإضفاء طابعٍ جامع على المسيرة وإخراجها من خطابها الفئوي.
يستكمل المسير، ولكنّه لا يستطيع أن يتجاهل أنّ شيئاً ما تغيّر بالمسيرة. يبدأ الرجل بالإحساس بالوحدة وشيء من الخطر. ما زال في وسط المسيرة، فهو دائمًا بوسط الحدث لمجرّد وجوده فيه، بحدّ ذاته. ولكنّ هذا الوسط بات وحيدًا، خالياً من أي وجود غير وجوده «بحد ذاته»، لا ينافسه عليه أحد ولا يلحظ أحد موقعه. يريد أن يذكّر الجميع بأنّه تخلّى عن امتيازاته، وقبِل بالمساواة، ونبذ التحرّش (وإن كان يصرّ دائمًا على أنه مفهوم فضفاض قابل للاستغلال). لكن لا أحد من حوله، فهو «بحدّ ذاته» وحيد الآن. لم يعد يستطيع التفرقة بين الحقيقة والخيال، فتبدأ الأسئلة تحوم من حوله:
هل تخلّى عن امتيازاته أو خُيّل له أنّه تخلى؟
هل الامتيازات زالت فعليًا، أم أنّه يستطيع العودة إليها عندما يحتاج ذلك، وهذا هو امتيازه الأساسي الذي لا مفرّ منه؟
ماذا يعني أن يتخلّى عن امتيازاتٍ هو صنيعتها، يستفيد من مجرّد وجودها؟
هل يقف فعليًا وحيدًا في هذه البقعة، أم أنّ هناك تاريخًا من الرجال وراءه، عنّفوا واستغلّوا واستفادوا لكي ينعم هو بضميره المرتاح في هذا النهار المشمس؟
تقلقه الأسئلة، ويبدأ الضمير المرتاح بالتحوّل إلى شعور بالذنب والنفاق، نفاق من يحاول التهرّب من ذنبه من خلال مسيرة صباحية. يواجه ذنبه لوحده، لا تبدو أي من المتظاهرات مهتمّة بأن تقدّم له صكّ براءة. يستمرّ بالسير ليحاول أن يتفلّت من فكرة مزعجة: هل هو ذنب الاستفادة المستمرّة من الامتيازات، ولماذا لم يمكنه أن يتفلّت من هذه الامتيازات؟
لكنّه غير معتاد على تلك الأسئلة. يفقد السيطرة على غضب بدأ يتملّكه، غضب يدفعه إلى الاستيلاء على صفة الضحية ليتشارك قَدَر من لا يستطيع فهْمَهنّ إلّا كضحايا. هو أيضًا ضحية النظام البطريركي، وريث امتيازات لم يختَرْها، نتيجة ذكوريّة مفروضة عليه، هو الضحية «بحد ذاتها»، الضحية النموذج، تلك الضحية التي اختارت من تلقاء نفسها الصفة تلك.
ذنبُه وظلمُها معركةٌ واحدة. هكذا يهرب الرجل إلى كونيّةٍ مجرّدة قد تُنهي هذا المسلسل من التساؤلات: لا رجال ولا نساء، كلنا أفراد، بحدّ ذاتنا. يردّد هذه الجملة، وهو يبحث عن مخرج من هذه المسيرة، شاكرًا ربّه إنّها مناسبة سنوية، لن تتكرّر إلّا بعد وقت طويل.
يبدأ بالانسحاب، لكنّه لا يستطيع التفلّت من هذا الإحساس الدفين بأنّه بات خارج الصورة بحدّ ذاته، بأنّه لم يعد المعيار بحدّ ذاته. لا يستطيع التفلت لأنّه لم يفهم ما حدث له. لم يفهم القدرة الأدائيّة لتجمّع كهذا للإطاحة بالمركز وجرف الصورة، وبخلق صورة، وإن للحظة عابرة، عن عالم لا يتوسّطه الرجل كمتضامن أو ضحية أو مصلح أو جلاد أو متحرّش، عالم لا يتوسّطه بحدّ ذاته.
لم يفهموا، ولكن لا يمكن لهم أن يتجاهلوا كم باتوا كائنات مملّة، كسولة في فهمها لذاتها، تعيسة في بحثها العبثيّ عن دور لهم يحافظون من خلاله على بعضٍ من حدّ ذاتهم. البعض يحاول الابتسام ريثما الضمير المرتاح يعود، والبعض الآخر يكتب مقالاتٍ، بحثًا عن سكوت خارج الصورة.