عرفتُ فرح في سنوات دراستي في الفرع الأول لكلية الإعلام في الأونيسكو، حيث كنت طالبة في اختصاص العلاقات العامة، وكانت هي طالبة في اختصاص الصحافة، وعضوًا في مجلس الطلاب. رغم أننا لم نلتقِ على مقاعد كثيرة، إلا أنني عرفتها، لماذا؟ لأنها فرح، وجميع طلاب الكلية في تلك المرحلة كانوا يعرفونها، لأنها كانت في كل مكان، في كل نشاط وفعالية وساحةٍ وغرفة، لينة وطيبة مع الجميع، لا تفارق وجهها الإبتسامة، تضحك للجميع وتردّ على كل تحية ولا تمتنع عن مساعدة أحد. هكذا عرفتُها، وهكذا عرفها الجميع.
بعدما ضجّت مواقع التواصل الإجتماعي بخبر استشهاد فرح إثر ضربةٍ إسرائيلية استهدفتها وزميلها في قناة الميادين المصور ربيع المعماري في الجنوب اللبناني ظهر الثلاثاء الفائت، كان للزملاء والأساتذة في الكلية ممّن عرفوها، طريقتهم الخاصة في رثائها. فلم يغب عن بال الجميع بتفاوت معرفتهم بها، أن يتذكروا ابتسامتها، وإصرارها على التقدم خطوة دائمًا نحو الأمام، ورغبتها في أن تكون حاضرةً حيث يجب أن تكون. وقد اختارت فرح، ابنة القرية البقاعية، أن تكون في الجنوب، على الحدود، كما قالت أمها، وكما كتبت فوق صورتها «صامدون في الجنوب».
أما أصدقاؤها المقرّبون في الصفّ ومجلس الطلاب، مَن عرفوها أكثر وأحبّوها أكثر، فكانوا في حيرةٍ من الوصف: الفخر الممزوج بلوعة الفقد، سيل الذكريات القديمة والحديثة الذي تفجر مع موتها، الذكريات الضاحكة السعيدة على المقاعد الخشبية في الجامعة. كان هذا الموت ثقيلًا على قلوبهم أكثر من الجميع، صورها مبتسمةً إلى جانبهم، كانت مصبوغة بالحزن، بالخسارة المباغتة، هذه الخسارة التي يعرفها ويفهمها فقط من فقدوا أصدقاءهم الصغار باكرًا، دون أن يتاح لهم فرصة الوداع الأخير، الكلمة الأخيرة، بسيناريو موتٍ لم يتخيلوا أن يقرأوه صبيحة يومٍ خبرًا عاجلًا على الشاشات، وأن يضطر بعضهم لصياغة الخبر بنفسه، أن يكتب عن رحيلها قبل أن تجفّ دموعه، قبل أن يصدق ما تقرأه عيناه.
فرح عمر، الاسم المحبوب لدى كل من عرف صاحبته، هكذا نعى مجلس طلاب الفرع فرح. الأساتذة كتبوا عن فرح الهادئة في الصف والنشيطة خارجه، وعن مشروع تخرجها الذي كان يتمحور حول طفلٍ فقدَ ساقه، لكن ذلك لم يمنعه من ممارسة إحدى ألعاب القوى. استطاعت فرح أن تترك بصمتها وأملها باستمداد الحياة من كل شيء بكل الطرق الممكنة في زوايا الكلية وذاكرة كل من عرفها، منذ اليوم الأول حتى المشروع الأخير، ما جعل غيابها ندبةً في خاصرة هذا المكان الذي سيظل يحكي للأجيال القادمة قصتها، منذ كانت طالبةً فيه، حتى صارت ذكرى معلقة على جدرانه.
كلنا للإعلام ولفلسطين
تزامن استشهاد فرح في 21 تشرين الثاني مع مرور ستّ سنوات على إطلاق البرنامج الإلكتروني «كلنا للإعلام» الخاص بكلية الإعلام في الجامعة اللبنانية، والذي أسّسه مجلس طلاب الفرع عام 2017. كانت فرح ممّن ساهموا في بناء وإطلاق هذا المشروع، وقدمت فيه فقرة خاصة عن وسائل التواصل الإجتماعي وشاركت في العديد من فقراته، وهو ما استذكره زملاؤها ممن شاركوها في انطلاقته. كان الهدف من المشروع تقديم محتوى إعلامي رقمي موحّد يعبّر عنا كطلاب إعلام من مختلف التوجهات السياسية والإجتماعية، في القضايا والشؤون التي تخصنا، وكان مفتوحًا لجميع الطلاب الراغبين في المشاركة، وقد توقف العمل به بعد جائحة كورونا وانتقالنا إلى التعليم عن بعد.
كانت القضية الفلسطينية من أبرز القضايا التي توحَّدنا عليها كطلابٍ متنوعين، وكانت فلسطين حاضرة في المشهد العام للكلية، في نظامها التعليمي وأنشطتها الثقافية والإجتماعية والسياسية التي كانت تقام في القاعة أو باحة الجامعة. وكذلك أخذت حيزها في «كلنا للإعلام» في مواضع مختلفة، أبرزها كان عندما أعلن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب القدس عاصمة لإسرائيل في كانون الأول 2017. وضعت الحملة الرافضة لهذا الإعلان تحت مسمى «القدس، المبتدأ والخبر»، ولعلّ أجمل ما أنتجته المنصة كان فيديو غنائي لزميلتين من الكلية يغنيان سويًا أغنية «زهرة المدائن».
وضع موت فرح إصبعًا على جرحٍ مفتوحٍ منذ السابع من أكتوبر، جرح كنا نشاهده ونقرأه ونتابعه من خلف الشاشات. واختلط دمها مع دماء آلاف الفلسطينيين من بينهم عشرات الصحافيين وعائلاتهم، الذين كنا نكتبهم ونحكي قصصهم وندافع عنهم من موقعنا كطلاب وعاملين في مجال الإعلام. وقد وحّدنا هذا الحزن وأشعرنا بالانتماء مرّةً أخرى إلى حرم الكلية الذي جمعنا بفرح وبفلسطين معًا.
«البطلة» بيننا
عندما انتشر خبر استهداف إسرائيل للمراسلين في لبنان للمرة الأولى، والذي أسفر عن استشهاد المصوIر في رويترز عصام العبدالله في 13 تشرين الأوّل، شعرتُ بالخوف وحاولت تذكر إذا ما كان أيٌ من أصدقائي أو زملائي ممّن أعرفهم شخصيًا يعمل في الوقت الحالي كمراسل على الحدود. ولم يكن بينهم أيٌ من زملائي في الكلية، إلى حين نشرت فرح صورتها على الحدود من مكان تغطيتها المباشرة قبيل أيام من استشهادها.
كان غياب زملاء الكلية ممّن أعرفهم عن التغطية الميدانية للحرب في الجبهة الشمالية مفهومًا، لاتخاذنا مسارات مختلفة في العمل اليوم، ولما تتطلّبه هذه التغطية من خبرة سنوات طويلة، في حين نبلغ اليوم 25 عامًا، شهدنا فيها حرب تموز كأطفال، ولم نشهد كيافعين وطلاب وعاملين في المجال الإعلامي كمثل ما يحدث اليوم. وحدها فرح تخطّتنا ووقفت في الميدان على هذه المقربة من العدو والموت ولم تخشَه، لهذا كانت كلمة «بطلة» هي أول كلمة خطرت على بال الكثيرين منا، لهذا تملّكنا شعورٌ مختلفٌ بالغبطة والإعتزاز، لأن فرح فعلت ما لم نستطع ولم نجرؤ حتى على فعله، فرح ماتت وهي تؤدي واجبها المهني على أكمل وجه.
قبل ليلة من استشهادها، كان إبراهيم، صديقي وصديق فرح وزميلها في الصف، قد نشر على حسابه على إنستغرام مقطع فيديو التقطه للبثّ المباشر للميادين على تلفازه، أثناء تغطيتها الميدانية الليلة لما يحدث على الحدود الجنوبية، وكانت فرح قد أعادت نشر الفيديو. عندما استشهدت فرح، لم يكن قد مضى على هذا الفيديو أكثر من ساعات معدودة، وهكذا، كُتب لها أن تموت، وتظل حية لساعات معدودة في «ستوري» نشرها زميلها في الكلية الذي لا يشاركها مكان أو طبيعة عملها، لكنه شاركها مقعدًا دراسيًا منذ أكثر من ست سنوات كانت كافية ليكون فخورًا بها، فخورًا بما وصلت إليه في مسارها المهني في فترة وجيزة. كانت بطلةً بعينَي إبراهيم، وتحولت إلى بطلة بعيون الكثيرين منا بعد شهادتها.
الوصايا الأخيرة
عند استشهاد عصام، كتبت فرح على حسابها على فيسبوك الاحتلال يواصل قتل الحقيقة. وعند استهداف الصحافيين بصاروخين موجّهين في قرية «يارون» في 13 تشرين الثاني، كتبت محاولات إسرائيلية متجددة لترهيب الصحافيين. لا تسكتوا... وافضحوا جرائم الاحتلال.
أوّل ما قرأت عبارتها الثانية، تبادر إلى ذهني الصحافي الفلسطيني صالح الجعفراوي الذي يكرّر عبارة «سأفضحهم» قبل نشر ما استطاعت عدسة هاتفه التقاطه من جرائم ارتكبتها إسرائيل في حق المدنيين العزّل في غزّة أثناء انقطاع الإنترنت وعزلة القطاع عن العالم. صالح الذي لا يمتلك أكثر من ابتسامته وكاميرته ليدافع عن قضيته.
قبل تشرين الأوّل، كان لدينا الكثير لنفضح به الإحتلال، كل جرائمه التي ارتكبها في بلادنا، على مدار سنوات طويلة لم نكن شاهدين عليها، لكننا توارثنا ألمها. واليوم لدينا أكثر من ذلك، لدينا النكبة والنكسة واجتياح لبنان وحرب تموز وحروب غزة، ولدينا فرح، ثأرنا الشخصي، زميلتنا التي كانت تضجّ بالأمل والحياة والإخلاص لكل ما تؤمن به، وقد قتلها الاحتلال، وسنفضحه بذلك وبكل ما مضى، كما أوصتنا، كما أوصت جميع من لديه صوتٌ يمكنه من خلاله أن يصرخ للعالم الأصمّ الذي يتفرّج على دمنا المسفوك.