تحليل
سلسلة
فلسطين عالميّة
هلال شومان

غزّة في أميركا الشماليّة

السياسة فعلٌ لغويّ

18 تشرين الثاني 2023
إلى الطفل خالد جودة: ستمتلك لغتك ذات يوم


هناك ما هو مفجع في المقتلة الفلسطينية المستمرّة من قبل إسرائيل منذ التاسع من تشرين الأوّل 2023، وهو في أصل التوصيف «العابر» للفلسطينيين كـ«حيوانات بشرية» ينبغي مجابهتها. فللوهلة الأولى، بدا أنَّ «البشري» في التوصيف إياه يلمّح إلى ضرورة استرجاع بشرية الحيوان، لكنَّ المذبحة المستكملة على الأرض سرعان ما قلبت المعنى باتجاه تأديب «الحيوان» حيوانيًا. الحيونة في التأديب هنا تقدَّم كفعل بشري يعاقب المخلوق من نوع مخلوقيته، فهو في النهاية حيوان شذَّ عن لغة وفعل البشر، ويجوز معه توسيع التأديب البشري باتجاه حيونة علنية وبلا تبريرات. 

الحيوان عامةً هو مخلوق تُمنَع عنه لغة البشر، ولغته، إن وجدت، يُنظَر إليها  كحشرجات غير مفهومة. في المقتلة الفلسطينية، يسبق هذه الحشرجات السؤال الافتتاحي المفروض: «هل تدين هجوم حماس بشكل لا لبس فيه؟». يفرض هذا السؤال كتمًا لغويًا، ويوجِّه الحديث بشكل يحشر المجيب في زاوية للتأكد: «هل أنت إنسان مثلنا؟»، فإن كنت إنسانًا، فعليك العبور من باب وحيد: «إدانة الهجوم بشكل لا لبس فيه». 

التفكير للحظة في «لا لبس فيه» هذه، يحيل فورًا في ذهن المستفَزّ إلى قرن من الإبادة الاستعمارية والتطهيرات العرقية والغزو وإذكاء الصراعات الأهلية ودعم أنظمة الاستبداد والعسكرة ونهب الثروات الطبيعية واحتلال البلدان عسكريًا أو بالوكالة، لكن الأهم أن «لا لبس فيه» تشير إلى اضمحلال مهول في اللغة جعل مفكرين وكتَّاباً وشعراء كثراً معروفين بمحاولاتهم الحثيثة دفع الكلام نحو العمق والمضمَر من المعنى ينحنون للموجة ويكررون إدانتهم بأشكال مختلفة، تختصر تاريخ «النزاع» في ما بعد هذا الحدث، وتغفِل ما قبله باعتبارها هجوم 7 تشرين الأوّل حدثًا اسثنائيًا طاول أناسًا بشكل استثنائي، بعكس آخرين على بعد كيلومترات. 

ما يهتم هذا التحليل بإيضاحه هو رفضه التسليم بإدعاء الوصول إلى «أداءٍ بشريٍّ» ما متوافق عليه في مناطق النزاعات أو الحروب الأهلية أو الاحتلالات والضربات الاستعمارية أو حتى في الدول التي تعاني من تبعات توحش الاقتصاد العالمي. هذا لا يمت إلى الواقع بصلة، أي صلة، إطلاقًا. وإن كان لأحد أن يحدِّد مستوى هذا «الأداء البشري»، فهو الطرف الأضعف، وهذا لا ينتقص من أفكار ومعتقدات متفاوتة عن كيفية مجابهة الوضع الاحتلالي.

إزاء هذه الصفاقة الفجّة في إعادة تركيب العالم «البشري» (يتقدّمه العالم السياسي)، ومع تدفق الصوَر والفيديوهات، تبدو اللغة أول المغتالين. يبدأ الاغتيال أولًا عند أهل غزة، ومن دون أي مجاز. صراخ مستمرّ لا ينتهي إلا صدىً في وادٍ عميق تحفره أطنان ملقاة من المتفجرات، ولا يودّ أن يطأه أحد. وإذا كان القاتل يُمعن في مسحه وإخفائه لفلسطينيّي غزّة، فإنّ الجثث المتراكمة تشكِّل جماعة، وبدل أن تختفي، تحضر أكثر كدليل على الفاجعة. إنّ الإبكام هذا ينتهي صرخةً، زعقة مهولة بحجم الفاجعة المستمرّة. فكلّ شيء يتفتّت في لحظة ويعود إلى المستوى الأول من التفكير البديهي. بمعنى آخر، إنَّ هذا العنف العقابي الحيواني الذي يمطر على الخلق يجدد فعلًا معنى أن يكون الإنسان إنسانًا، ويستردّ الذريعة التي سبقت العقاب وحاولت سحب الصفة الإنسانية من شعب بأكمله. 

لا تتحدّد الكارثة هنا فقط في حدوثها، بل تتوسّع بشكل مهول بعد وقوعها مع تطبيع النظر الأبكم إليها، الذي لا يستدرج حتى طلبًا بوقف إطلاق النار. فالقتلى هم أضرار جانبية لقضية أكبر ستضمن التخلص من «الإرهاب»، ويمكن أيضًا دفع تهمة «الإرهاب» إلى حدودها القصوى مع تهمة «الدعشنة». فضلًا عن كون هذا القاموس اللغوي قاموسًا حيوانيًا، فهو قاموس أمني خالص لا يقف عند توصيف الهجمة في 7 تشرين الأول، بل يتعداها للتفريق الضمني بين العنف العاري والعنف المحتمي بالتكنولوجيا. الذي يقوله هذا الخطاب إنَّ العنف ينمحي عندما يذوب مرتكب العنف داخل الآلة، فيربُط جبن التواري داخل وخلف الآلة، بإنسانية أعلى قدرًا، ولو قتلتَ بلا تفرقة بسلاح ذكي، ومن دون أن ترى من قتلت، وحتى لو قررتَ أن لا ترى بعدها فعلتك. إنَّ «جمالية» العنف هذه المرتبطة بالتواري في التكنولوجيا هي في صميم الخطاب الذي ساد في الشهر الماضي ورسم الحدَّ بين أن تكون إنسانًا أو حيوانًا.

في أونتاريو: عربٌ وفلسطينيّون خارج المكان

لكلِّ منّا تواريه الخاص في الداخل والخارج، في المنطقة أو خارجها وراء المحيط. في الخارج تحديدًا، التواري هذا هو في صلب حياة المهاجرين العرب في أوروبا وأميركا الشمالية، قبل 7 تشرين الأول وبعده، ولكنَّ الأحداث الأخيرة عاظمت من هذا الإحساس بالتواري. أسئلة من نوع «أين نحن؟»، و«من نحن؟»، و«ما الذي نفعله هنا؟» تتكرر في كل اجتماع أو قعدة، زاد منها أكثر الخطاب الذي تعمَّم في السياسة والإعلام والجامعات.

في كندا مثلًا، تدرَّج الخطاب السياسي في الأسابيع الثلاثة الأولى، من صرخة جاستن ترودو المتهدجة عن «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بالاستناد إلى القوانين الدولية»، وعن الإيضاح (لمواطنيه ذوي الأصول العربية ربما؟) أنَّ «إرهابيي حماس ليسوا حركة مقاوِمة»، وأن لا مكان في كندا لـ«تمجيد العنف»، إلى خطاب قلق على «المدنيين الفلسطينيين في غزة» بالتوازي مع التذكير بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها». لاحقًا في العشرين من تشرين الأول، سيرفض مسجدان استقبال ترودو، وفي المسجد الثالث سيقابَل ترودو بصيحات الاستهجان من المصلين في الداخل والمجتمعين في الخارج. سيستمر سيل رسائل الاعتراضات من المواطنين الكنديين لممثليهم في مؤسسات الدولة، وفي الثالث والعشرين من تشرين الأوّل، سيوجه أكثر من ثلاثين عضوًا في مجلس العموم الكندي، منهم ثلاثة وعشرون عضوًا في الحزب الليبرالي الذي يرأسه ترودو نفسه، رسالة إليه كرئيس للحكومة يطالبونه فيها بالدفع لوقف إطلاق النار. مع الضغط الإعلامي عليهم، سيشرح بعض موقعي الرسالة أن مطالبتهم بوقف إطلاق النار لا تتعارض مع «حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها». في الرابع والعشرين من تشرين الأوّل، وعلى إثر سؤال من رئيس حزب المحافظين المعارض بيار بوليفييه سيجيب ترودو أنه بالاستناد إلى معلوماته الأمنية فإنَّ «إسرائيل لم تطلق صاروخًا على مستشفى الأهلي في غزة في السابع عشر من تشرين الأوّل».  ولاحقًا، في الثالث من تشرين الثاني، سيزلق ترودو بلسانه ويكاد يطالب بوقف إطلاق النار (cease fire) فيقول «علينا أن نرى وقفًا..»، ثم يعيد مصححًا «علينا أن نرى هدنة إنسانية». 

الخطاب الابتدائي لترودو سيتسيَّد الساحة في الأيام الأولى، فتوصم المظاهرات المناصرة للفلسطينيين والمناهضة للحرب الإسرائيلية بكونها مظاهرات تمجِّد العنف.  في اليوم الأول (7 تشرين الأوّل)، ستضطر عمدة تورونتو أوليفيا تشاو المنتخبة حديثًا أن تسحب تغريدة قالت فيها- بعدما أدانت هجمات حماس بشكل غير مشروط- إنَّها تلحظ الألم الفلسطيني، مبررةً سحبها بـ«الأذى والالتباس اللذيْن سببتهما التغريدة». في التاسع من تشرين الأوّل، ستوصِّف تشاو التظاهرة الأولى الداعمة للفسطينيين والمقررة في ساحة ناثان فيليبس بتورنتو قبل حدوثها بكونها تظاهرة غير مصرح بها (ليس هناك تصاريح للتظاهرات في تورنتو)، وستدينها وتموضعها ضمن الخطاب نفسه من «مناصرة حماس» و«تشجيع الإرهاب» و«تمجيد العنف»، وستظهر تشاو في اليوم نفسه في مظاهرة داعمة لإسرائيل لـ«دعم المجتمع اليهودي في تورونتو» وستقابل بصيحات الاستهجان. بعدها، ستكرّر تشاو انتقاداتها لتظاهرة تدعو لمقاطعة كافيه لاندور الذي يفتخر مديرها التنفيذي بخدمته في القوات الخاصة الإسرائيلية قبل أن «يسعى لمغامرته الخاصة» بالانخراط في مشروع المقهى الذي يمتلك فروعًا في تل أبيب. ستوصم تشاو المظاهرة بكونها استهدافًا للمشاريع التجارية اليهودية في تورونتو وأن لا مكان في المدينة لمعاداة السامية. في الرابع من تشرين الثاني ستتحول التظاهرة الكبيرة التي جابت شوارع تورنتو طلبًا لوقف إطلاق النار إلى اعتصام يحتل مئات فيه مساحة من شارع باي، مطالبين تشاو بالاعتذار عن تشهيرها بالجالية الفلسطينية في تورونتو.

دوغ فورد، حاكم مقاطعة أونتاريو الذي ينتمي لحزب المحافظين وهو حزب المعارضة الرسمية في كندا، والمسؤول عن فضيحة الحزام الأخضر، سيجد وقتًا خلال الفضيحة للهجوم على سارة جامع (جاما)، النائب عن دائرة وسط هاميلتون في أونتاريو بعد إصدارها لبيان في العاشر من تشرين الأوّل، تطالب فيه بإنهاء الاحتلال والتمييز العنصري على كامل الأراضي الفلسطينية. سيطالب فورد باستقالة جامع، مبررًا أن لها تاريخاً من التصريحات المعادية للسامية. ستعتذر جامع باختصار، وتعلن أنها «تفهم الألم الذي يشعر به اليهود الكنديون والكنديون الإسرائيليون». في الثالث والعشرين من تشرين الأوّل، ومع استمرار القصف على غزة، وفي مواجهة مناقشة قرار من المجلس التشريعي في أونتاريو بإدانة تصريحاتها وعدم الاعتراف بها كنائب في المجلس إلى أن تعتذر عن بيانها الأول، ستعيد جامع مطالبتها بوقف إطلاق النار وإنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية. سيمرّ قرار إدانتها في المجلس. وبالرغم من عدم تصويت الحزب الديموقراطي الجديد الذي تنتمي له جامع مع القرار، فإنَّ زعيمة الحزب في أونتاريو ماريت ستايلز، ستقصي جامع من المؤتمر الحزبي، بحجة أنها قوّضت عمل الحزب الجماعي بتعليقاتها الأحادية و«خلقت بيئة عمل غير آمنة». ستواجَه ستايلز بدعوات للاستقالة بعد القرار لأنها لم تحترم خيار الناخبين، وتصير جامع نائبة مستقلة لا يمكنها التحدث في المجلس التشريعي، وهي في طريقها لمقاضاة فورد بتهمة التشهير.                                  

على مستوى الجامعات، ستتفرَّد ثلاثة اتحادات طلابية في جامعة يورك في الثاني عشر من تشرين الأوّل، بإصدار بيان مشترك تعلن فيه أنَّ الشعب الفلسطيني قد «قام بفعل مقاومة قوي عبر هدم وعبور السياج الحدودي غير الشرعي الذي أقامته دولة الفصل العنصري الاستعمارية الاستيطانية المسماة إسرائيل». سيدين البيان «كافة أشكال العنف الاستعماري» و«يدعم سيادة السكان الأصليين». ومع إدانة رئاسة الجامعة اللاحقة للبيان، ورفض الاتحادات سحب بيانها، ستتعرض الاتحادات الثلاثة للمساءلة، وتخوض الاتحادات الآن معركة مع الإدارة، مع إمكانية سحب ترخيصها وخسارة التمويل الطلابي الذي تجمعه الجامعة نيابة عنها. ومثل يورك، أشهِرَت إدانات مشابهة لبيانات مجموعات طلابية في جامعتي تورونتو ميتروبوليتان وتورونتو ميسيساغا بضغط من لوبيات صهيونية.

هذه الأمثلة السياسية عن تدرّج الخطاب العام، والصراعات اللغوية حول معاني الإدانة ومعاداة السامية وحرية التعبير (غير المطلقة) وخطابات الكراهية وتمجيد العنف، تحيلنا إلى موقع العرب والمسلمين في المجتمع الكندي. فهم أولاً يجدون أنفسهم في موقع ينبغي عليهم فيه أن يموضعوا السردية الفلسطينية ضمن سرديات أوسع لكسب التعاطف (خطاب السكان الأصليين، مثالًا). وإضافةً إلى ذلك، عليهم أن يتفادوا اللغة التي تجعلهم عرضة للتبعات القانونية، مع التذكير المتكرر لهم بمسألتَيْ تمجيد العنف والمنظمات الإرهابية. 

يحاول خطاب العرب في كندا المزاوجة بين قاموسين، فيستعير كلًا من القاموس الفلسطيني (مقاومة الاحتلال، التحرير، حق العودة) وقاموس السكان الأصليين، ويقدم خطابًا شمال أميركي يفقهه أبناء المهاجرين العرب المولودون أو المتعلمون هنا، محاولًا جلب التعاطف والاتكاء على حماية جماعية ما. أما المهاجرون الجدد في السنوات القليلة الماضية أو العرب الذين يعيشون فقط ضمن مجتمعاتهم العربية الصغرى، فهم يحاولون تلمس لغة لا يفهمون صلتها بالمسألة الفلسطينية (السكان الأصليين). يعاظم اتساع المظاهرات من هذه الاستعارات اللغوية. فالمظاهرات التي بدأت أسبوعية قوامها العرب فقط، صارت يومية حول السفارتين الأميركية والإسرائيلية ومؤسسات الحكومة الكندية وبدأت تشمل أناسًا من كافة الأطياف والأعراق والخلفيات الثقافية، ما يذكّر بالمظاهرات المناهضة لحرب العراق في عام 2003، مع فارق العشرين سنة، وسهولة الوصول للصوَر والفيديوهات من أناس عاديين على الأرض.


يُطرح هنا السؤال الأزلي الذي عمره من عمر القضية الفلسطينية عن استعارة لغة وجسد الفلسطيني، وصولًا للاستحواذ عليهما. في الخلاصة، عندما تجتمع هذه الخطابات من دون تأطير سياسي، تنتهي إلى نتيجة من نتيجتين، مجاورة في مشهد المظاهرات أو تسطيح لخطاب لصالح خطاب آخر، للجمع بين أكثر من جماعة تقاطعيًا. التقاطعية التي يُلجَأ إليها هنا لم تصل بعد إلى تأطير سياسي جامع، فهي تطفو ضمن إطار الحدث وتنكمش مع توقفه. لكن أيًا تكن النتيجة، وهي نتيجة تحتاج تمحيصًا وجهدًا لاحقًا، فإنَّ وقف إطلاق النار يبقى في مقدمة الخطابات كافة، بينما يبدو مطلب رفع الحصار أقل طارئية ووضوحًا في هذا التقاطع بين خطابات المتظاهرين.

يهود ضدّ الصهيونيّة: «​العدل، العدل، تتبَّع»

وسط هذا كله، يعيد يهود معادون للصهيونية على مقربة، في الولايات المتحدة الأميركية تحديدًا، تعريف لغة الحديث عن معاداة إسرائيل. فإذا كان الحدث الفلسطيني هو بمثابة انفجار في اللغة العالمية المسموحة متسيِّدة المجال العام، انفجار لوجود «معقَّد» يأبى الانسحاب من العالم بحسب اللغة العالمية هذه مثلما ألمحت مقالة كريم قطان، فإنَّ لغة اليهود المعادين للصهيونية، هي انفجار آخر- ولكن مختلف- في اللغة نفسها. هذه اللغة، حتى وإن كانت تقول الكلام نفسه، لكنَّ تبنيها من قبل يهود يرفضون المشروع الصهيوني من خارج الدولة، وأحيانًا من خارج منطق الرفض اليهودي الديني لدولة إسرائيل، يوفِّر الحماية على الأقل خطابيًا بالاحتماء وراء يهودية قائليها، وإن تم وصمهم بكره الذات. ففي زمن يصبح فيه مفهوم معاداة السامية مطاطًا حتى بدأ يشمل نقد إسرائيل، يبدو الخطاب اليهودي المعادي للصهيونية ضروريًا لاسترداد لغة نقد إسرائيل واعتبارها دولة احتلالية عبر خطابات من نوع «Never Again» و«Not in my name» و«​العدل، العدل، تتبَّع».

يظهر هذا مثلًا في نداء سام ساكس الشعري الصارخ لناسه (اليهود): «عندما أقول إني أحمل ناسي/ فيَّ، لا أقصد دولةً./ النجمة التي تتدلى من رقبتي/ هي ببساطة وسيلة للقول إن إسرائيل/ ليست مكانًا ماديًا، إنها مجرد كلمة تُكتَب/ وتُحمَل إلى أي مكان./ إنها طريقتي للقول إنَّ ناسي أجمل/ في الترحال، في الحركة،/ لتصير دولتنا فقط هي الماء في حالته السائلة،/ متكيفًا مع الوعاء الخاص بنا/ (..) فيا ناسي، أي مكان عشتم فيه/ بما يكفي لتصنعوا القنابل/ هو مكانٌ عشتم فيه لفترة طويلة جدًا».

في مجابهة محاولات الكتم اللغوي هذه، يتلاقى الخطابان: الخطاب الفلسطيني المقارع للاحتلال والخطاب اليهودي المناهض لوجود إسرائيل. على المقلب الآخر من الخطاب اليهودي، يحاول فلسطينيو غزة إثبات أنهم بشر أولًا، وأن بشريتهم تمرّ حكمًا بمقاومة الاحتلال. وهم بمحاولتهم هذه، يرمِّمون لغة العالم المتآكلة سياسيًا، المنهارة باتجاه مستوى بالغ البدائية، كلٌ من موقعه، شأنهم شأن غسان أبو ستة الذي يخرج من غرفة العمليات ليروي قصص مرضاه الراحلين قبل رحيلهم في كلمات قليلة، معيدًا للّغة المكتومة في لحظة الخطر بداهتها: عندما تعجز لغتك، عُدْ للمباشَرة.

سلسلة

فلسطين عالميّة

الآن، وأكثر من أي وقت مضى، فلسطين عالميّة. لا نعني بذلك أن القضيّة الفلسطينية «قضية إنسانية» فحسب، أي جامعة بتجرّد عدالتها، بل فلسطين عالمية لأنّها، بالإضافة إلى عدالتها الجامعة، باتت قضية تقسم العالم بين أشكال مختلفة من التضامن دولياً ومحاولات مركّزة لإسكاتها وتجريمها.

يتقصّى ملفّ «فلسطين عالميّة» جوانب مختلفة من أشكال المواجهة الدائرة اليوم في المدن والجامعات والنقابات والمؤسسات والمدارس والمتاحف والصحف وفي اللغة نفسها. ومن خلال ذلك يسعى الملفّ إلى أمرين: الأوّل، نقل تجارب شخصية واختبارات عينية، تبتعد عن المقولات الجاهزة والهلامية، عن الغرب مثلاً. والثاني، ربط تجارب مختلفة ببعضها بعضاً، لإظهار تداخل المواجهة الحالية مع سياقاتها السياسية والاجتماعية في المجتمعات التي تشهد تلك المجابهات.

فلسطين في النروج | تحليل
غزّة وعصر «المحارب» القادم | تحليل
البحث عن اسمٍ للحرية | نقد
حدود الديمقراطية الألمانية وضوابط الفنّ المعاصر | حديث

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
الاتحاد الأوروبي: قرار المحكمة الجنائية مُلزِم لكلّ دول الاتحاد
مقتل باحث إسرائيلي كان يبحث عن «أرض إسرائيل» في جنوب لبنان
قتيل بصواريخ حزب الله على نهاريا 
 أعنف هجوم إسرائيلي على الأراضي السورية أكثر من 68 قتيلاً في غارات تدمُر