ينقسم اللبنانيون إزاء كلّ شيء.
حرفيًا، وعند كل منعطف، ينقسمون إلى محوريْن بأقل الاحوال. هكذا، ببساطة، يستعيد معظم اللبنانيّين انقساماتهم في مزيج لانهائيّ من الثنائيّات، فيعودون إلى الخنادق، وكأن هناك حاجة خفية ملحّة إلى الانقسام، كيفما اتفق، وحول كل الأشياء.
لعلّه من الطبيعي أن يتظهّر الطابع الأيديولوجي للنظام في هذا السلوك.
ينقسم الناس ويتموضعون بأشكال مختلفة، لأن النظام اشتدّ عوده بالتفرقة بينهم، وتقسيمهم بما يخدمه هو وليس ما يميّزهم هم. فالنظام الذي يعيشون عليه قام على فكرة الجماعات المنقسمة، على فكرة الانتماء إلى كيانات تقوم على الاستبعاد، على تعيين حدود فاصلة وليس جسوراً واصلة بين الناس.
لعله انعكاس لذهنية ذكورية نابعة من حجم الدولة الصغير.
فهي قاصرة وبحاجة ملحّة ومستمرّة إلى أخ أكبر، إلى وصيّ، إلى أب، إلى انتماء وتبعيّة لكيان خارجها يؤمّن لها أكثر ممّا تستطيع أن تؤمّن بنفسها، ويمنحها قوة أكبر تحتمي بها وتستسهل القفز إليها عند أي خطر.
لعله التعريف بالنفي.
لا تعمل أفراد الجماعات على تأكيد ذاتها إيجابًا، بالفعل والنشاطية، بالكفاءة والإبداع والمساهمة والانفتاح على الآخر، بقدر تأكيد ذاتها بالنفي، بالسلب، بالبتر والاستبعاد، بالوضع خلف الشريط الجماعاتي الشائك.
هو أيضاً سلوك حماية. تلك الحاجة، الإشباع النفسي للهرب من خوف الوحدة والطحن اليومي في الإنتاج وفي الحياة. فالبرجوازية لم تستكمل طابعها الثوري في بلادنا تاريخيًا، ولم تؤكد أيديولوجيّة النزوع الفردي بالانقسام حول المصالح الخاصة، ولم تنشئ مدنًا بالمعنى الرأسمالي. بل تحوّلت، بقدرة قادر استعماري، من قرى إلى مدن بطابع مختلف، مدن مبتورة بعلاقاتها الاجتماعية جرّاء نزوح الجماعات بثقافاتها القبلية والقروية إليها. فلم تنشأ وتتأسس على الطابع الفردي للعلاقات الاجتماعية من ناحية، على المهن والإنتاج، ولم تتخلَّ عن الطابع العائلي العشائري للعلاقات من ناحية ثانية. فتتصارع بين حدَّيْن لا تستطيع أن تتأقلم مع أيٍّ منهما.
لا شك أنّ القوى الرأسمالية استطاعت أن تقسّم الناس حول قضايا مختلفة بهدف قيادتهم. وسرعان ما يتبيّن أنه انقسام لا معنى له، أو بالأحرى، انقسام لا يفيد المجموعات البشرية المنقسمة إلا في توزيع البقايا، الفُتات، بقدر ما هو، بكافة الاحتمالات، وعلى المستوى الاستراتيجي، في خدمة قوى الهيمنة.
هذا بالتحديد ما يجري في لبنان. فسرعان ما يظهر أن الحرب التي استعرت، والفعل الذي انقسم حوله اللبنانيون لا نتائج مباشرة له، ولا نتائج مرجوّة منه.
إما لأنه مجرد رسائل لم ولن تُستكمل، إذ هناك حاجز غير مرئي، ثقب أسود لا تستطيع جماعات السلطة أن تتخطاه. فهناك سيظهر ما هو مخفي، صندوق «باندورا» آخر ليس من مصلحة أحد فتحه. إما لأنه لا يفيد المنقسمين، بل هو، مرة جديدة، قاعدة من قواعد السلطة الأبدية، خلق انقسام بكافة الأشكال الممكنة، لسبب الانقسام ذاته دون أي اعتبار للقضية. إذ كل القضايا، مهما كانت سامية، إما «بوالين» اختبار، وإما أدوات مصيرها السحق في بورة العطب الأبدي للنظام.
إنّ الأزمة هي أنّ الانقسام السلطوي لا يقف عند هذا الحدّ، بل يمتدّ ليهيمن على ميدان مجموعات التغيير التي يُفترض أن تقوِّض هذا النزوع القسموي الوهمي المستمر. فسرعان ما يضربها في بنيتها ليعطبها، وينعطب معها وبها من جديد.
ففي حين أنّ الضرورة تقتضي تدارك مجتمع الناشطين أهمية السعي إلى إعادة تأسيس السياسة من خلال إعادة تأسيس الانقسام كتعبير عن مصالح الأكثرية الساحقة، وربطه بحياتهم وحاجاتهم اليومية بشكل أفقي بعيدًا من كل عموديات السلطة، نجد أن المجموعات تعاني من أوهام الانقسام تمامًا كما جماعات النظام. فينعكس في خطاباتها، وفي ممارستها، ما يؤدي إلى تلاشي الفوارق بينها وبين السلطة وإلى تقويض كل إمكانيات الثقة بها.